تزيد الاحتجاجات الصادرة من الداخل السوري، عن مجرد احتجاج على أحوال المعيشة المتردية، وتشمل ما يدعى بمناطق النظام، وهو تعبير مبتدع، من ناحية أنها تبدو ملكًا لنظام لا يملك نفسه، بينما لا يستطيع الإتيان بحركة من دون الاستعانة بإيران أو موافقة روسيا، اللتين تركتا له حرية التحكم بالشعب، ما دام أنهما لن يتحملا تكاليف تدهور أحوال الناس إلى حضيض ما زال مستمرا.

ليتنا نستطيع أكثر من التعاطف مع هذه الاحتجاجات، لذلك نحذر من الشماتة بالسوريين الذين صمتوا، أو أيدوا النظام في فترة ما، أو اضطروا إلى ممالأته، جميعهم اليوم في محنة. إن بين الموالين من قدموا أولادهم ضحايا، إنهم أكثر المغبونين خسارة. اعتقدوا أنهم يدافعون عن وطن، فإذا بهم دافعوا عن عائلة كي تبقى في الحكم، لقد انخدعوا وغُرر بهم وهم يعرفون ذلك، ودفعوا الثمن غاليا، لم يعد هناك ما يُخفى.

أما المستفيدون فما زالوا يرفعون الصوت عاليا يطالبون بمحاكمة هؤلاء الذين اتهموا النظام بمأساة شملت بلدا. ولا يغرنا أن هناك من أصابهم السّعار في الذود عنه، من أمراء الحرب والكبتاغون وتجار العمولات والسمسرة، ومعهم شبيحة وحشاشون وباعة مخدرات، إضافة إلى الذين ينتظرون أن ينعم عليهم النظام بشيء ما لقاء خدمات يقدمونها له، مهما كانت تلك الخدمات، ولا ننسى بضعة مثقفين، لا يزيدون عن موظفين يكتبون في الجرائد والمواقع الإلكترونية، وإلى جوارهم بضعة كتاب يزعمون أنهم ضد الإرهاب متباهين بمواقفهم الذليلة رغم محاولاتهم لتبدو محايدة.

خلاصة الكلام، لا رغبة في توريط أحد، بل ننصح بالصمت. لِمَ التفوّه باحتجاج قد يقود صاحبه إلى السجن وربما إلى الموت، لن تزيد عن تضحية مجانية، حتى الذين لديهم حماية ما، يستمدونها من موقعهم أو مكانتهم، أو يظنون أنهم يحظون برضا النظام، هؤلاء حتى لو تبرعوا بنصيحة، سيضطرون للتحايل عليها، والرجوع عنها، على أنها صدرت منهم في لحظة غضب.

ما يحيلنا إلى مقابلة أجراها ممثل سوري أثارت تصريحاته حول الحريات جدلا واسعا، لكنه اضطر إلى التراجع عنها على نحو أساء إليه، وذلك بتوجيه تحية للجندي السوري على حدود إدلب، أي حيث يتحصن الأعداء، من هم الأعداء؟ هؤلاء الذين انتُزعوا من أراضيهم وبيوتهم وهجروا بالباصات الخضر. لن ندين الممثل، الضغوط التي تعرض إليها لا طاقة له عليها، نعرف أن النظام إن لم يرم به في أحد الأقبية، سيدبر له حادثا، أو يحرمه من العمل، ويُعرضه للمضايقات تنال من لقمة عيشه، ويُهدده مع عائلته، النظام لا يتورع عن شيء. لن نسأله تصحيح التصحيح. لا نجهل كم هذا النظام هو مجرم. على كل حال ما قاله قد قاله، سواء كان زلة لسان أو لم يكن، سمعه الناس، وأحسوا بالغبطة، وإذا تنصل مما قاله، فقد أدركوا لماذا تنصل منه. لا يجوز الادعاء بأننا نجهل ما نعرفه تماما.

باتت هذه الاحتجاجات تشكل سوابق تدلل على الوجه المشرق للنظام السوري، الذي سمح للفنان بزلة اللسان، بل وسمح له أيضا بإنكارها. كما سمح لمثقفي النظام بالثرثرة أحيانا بما يبدو انتقادا من دون أن يمسهم تحذير أو تنبيه، حسب اتفاق بالتراضي معهم.

خلاصة الكلام، لا رغبة في توريط أحد، بل ننصح بالصمت. لِمَ التفوه باحتجاج قد يقود صاحبه إلى السجن وربما إلى الموت، لن تزيد عن تضحية مجانية، حتى الذين لديهم حماية ما، يستمدونها من موقعهم أو مكانتهم، أو يظنون أنهم يحظون برضا النظام، هؤلاء حتى لو تبرعوا بنصيحة، سيضطرون للتحايل عليها، والرجوع عنها، على أنها صدرت منهم في لحظة غضب. بينما في الصمت حفظ للكرامة. لذلك تثمينا للصمت، دعوناه أكثر من مرة بالصمت المقدس. وما احترامنا له، وحثنا عليه، إلا لأننا ندرك أنه ليس صمتا، بل إدراك واع لحقيقة هذا النظام. لا نريد ضحايا، يكفينا ما سفك من دماء، دفعت سوريا مليون شهيد من سكان مدنها وقراها كافة.

طبعا، للنظام الحق بالعتب على الموالين له، ولو أن العتب تتحكم به المخابرات بحكم العادة، ولسان حالها يلهج بقصة نصف الكأس الفارغ، لماذا لا ترون النصف الملآن؟ لماذا الإصرار على أن البلد مقبل على مجاعة، ويعاني من أزمات الوقود والخبز والمواصلات وربما كل شيء، لكن البطاقة الذكية حتى بعد سحب الدعم، استطاعت التغلب عليها كلها، على الرغم من الحصار الدولي وفي الواقع الكوني، حتى إن روسيا وإيران لم تساعدنا كما يجب، لقد اعتمدنا على أنفسنا.

هل من حاجة للتذكير، بأن سجوننا باتت تضارع السجون السويسرية، فلماذا يُزعم أنها مسالخ بشرية لاقى فيها الآلاف حتفهم من المعاملة السيئة، بينما أصبحت منتجعات تعادل فنادق النجوم الخمسة؟ كما أن الخطوة الحضارية التي ينبغي ألا تفوت أحدا، افتتاح مراكز ثقافية في السجون، ما شكل خطوة رائدة في الشرق والغرب، انفردت بها سوريا، ليست مركزا واحدا بل أربعة، اثنان في سجن دمشق المركزي، وسجن حمص، وسجن طرطوس. وهي ليست معتقلات ولا أماكن احتجاز، بل مراكز تثقيف. ففي سجن عدرا على سبيل المثال جرى تنظيم فعاليات ثقافية للنزلاء شارك فيها وزير الداخلية ووزيرة الثقافة، افتتحا خلالها مكتبة السجن بعد توسيعها لتضم نحو 6 آلاف كتاب. وأطلعا على أعمال تزيين جدران ردهات السجن برسومات، ضمت صور الرئيس الخالد، والفارس الشهيد، والرئيس الابن، وأخوه صاحب الفرقة الرابعة. انتهى، ها هي الرموز الوطنية.

نعود للتذكير، ليس بالخبز وحده يحيا الانسان، بل تحتل الثقافة اللبنة الفاعلة في بناء الإنسان السوري الجديد، والدليل ليس المكتبات والفعاليات الثقافية فقط، ولا في أن سجوننا فاقت سجون بلدان الديمقراطيات، بل سوف تتخطاها بعروض مسرحية، لن تكون خلالها الإعدامات الدورية سوى مسرحيات مؤثرة، لكن بعد انتهاء العرض، لن يشهد أحد عودة الممثلين إلى الحياة.