يُعتبر المثقف فاعلًا سياسيًا واجتماعيًا مؤثرًا في عصره، ما دام منخرطًا في أحوال زمانه، سواء في تبرير سياسات الدول أو نقدها سلبًا أو إيجابًا، وهو ما يضعه وراء الكثير من المتغيرات سواء في محيطه المحلي أو قد يتجاوزه إلى المحيط الأوسع في العالم.
أكثر ما تكون دعوات المثقف بروزًا على المستوى الداخلي والخارجي تبدو في أن يكون محرضًا على الحرب وداعيًا لها، أو الدعوة إلى السلام والمساهمة في كبح جماح العنف. فإذا ذهبنا إلى التاريخ، عندما كانت الثقافة تُصنع في الأديرة والكنائس والجوامع، كان للمثقفين الدينيين إسهام كبير في إشعال الحروب الدينية، تبدى في إشعال الحروب الصليبية، المترافقة بخطاب ديني تبريري، أعلن عنه البابا أوربان الثاني. صحيح أن البابا رجل دين، لكنه محسوب على المثقفين والعلماء، بدعوته إلى الحملة الصليبية الأولى لاستعادة الأرض المقدسة، ما أعطى الشرعية للمذابح التي ارتُكبت في القدس.
في مرحلة الاستعمار الأوروبي، قدم العديد من المثقفين الغربيين غطاءً فكريًا لتبرير السطو على قارات واحتلال أراضٍ ونهب ثروات الشعوب، تحت غطاء نشر الحضارة بين الشعوب المتخلفة، إلى حد أن الفيلسوف الأميركي جون ستيوارت ميل سوّق هذه الدعوى على أنها واجب أخلاقي اضطلعت به الدول المتحضرة، بينما صاغ الشاعر والروائي روديارد كيبلينغ فكرة “عبء الرجل الأبيض” في تمدين الشعوب وإخراجها من الظلام إلى النور، ولم يكن النور سوى المجازر التي سفكت دماء السكان الأصليين.
برّر مثقفو النظام مجازره تحت راية علمانية زائفة
أعطى الخطاب الفكري الشرعية الأخلاقية للاستعمار، وكان للمثقفين الدور الأكبر في تحويل الحروب التوسعية إلى رسالة دينية أيضًا بموجب تحويل الشعوب الوثنية إلى الإيمان المسيحي، ما برر أيضًا تجارة الرقيق السوداء.
ومن الغرابة أن الفلاسفة الكبار للقرن العشرين زلّت بهم فلسفاتهم، أو انحرف بهم تفلسفهم إلى تأجيج النزاعات بشكل مباشر من خلال التنظير الفلسفي لسياسات وفرت المسوغات الأيديولوجية للحروب. فمثلًا في ألمانيا النازية، لعب المفكرون والفلاسفة القوميون، مثل مارتن هايدغر، دورًا في تبرير سياسات التوسع العسكري والهيمنة العرقية، ما دعم صعود الحزب النازي، فكانت فكرة “تفوق العرق الألماني” امتدادًا منطقيًا لفلسفته، وبالتالي منح الشرعية لممارسة النظام النازي العنف ضد اليهود.
كما جسدت مجموعات “المحافظين الجدد” في أميركا صوت الحرب باعتبارها الوسيلة الضرورية لتقوية النفوذ الأميركي في العالم، وهيمنة أميركا على العالم بمرجعية ترجح الحلول العسكرية على الحلول الدبلوماسية والسياسية، ودعت أطروحاتهم تحت غطاء تعزيز الديمقراطية إلى التدخل في بلدان العالم، حتى لو اقتضى إحلالها استخدام القوة العسكرية.
لم يأت المحافظون الجدد من السياسة فقط، كانوا مثقفين، قدموا من الكتب والجامعات وصناعة الرأي، ما جعلهم يلعبون دورًا كبيرًا في دفع الولايات المتحدة إلى حرب العراق عام 2003.
ليس هناك نظام سياسي ديمقراطي أو دكتاتوري إلا ويحف به مثقفون من طغمة الحكام، يبررون له تجاوزاته وحجره على الحريات وتلاعبه بالرأي العام، ما أكد أن الثقافة لا تقل عن الاقتصاد كمحرك رئيسي لتلك الموجة من الحروب التي لا تهدأ في أرجاء العالم.
بالنسبة إلى سورية، كمثال حاضر في زماننا، أسهم مثقفو النظام في تجريم الإسلام، واعتباره ليس علمانيًا ولا ديمقراطيًا ولا تقدميًا، ما جاز لهم اتهامه بالتخلف وتبرير المجازر المرتكبة تحت راية علمانية زائفة، لم توفر إلا القتل والدمار والنهب والتعذيب، ولم تحقق التقدّم إلا نحو المقابر الجماعية.
لا تزيد في اعتبار المثقف المشارك الأكبر في حراك التاريخ نحو إيجاد الحلول الإنسانية للبشرية، أو أسوأ أنواع الخيارات غير الإنسانية.
-
المصدر :
- العربي الجديد