سعت بريطانيا في عام 1765 لمعالجة العجز في ميزانيتها إلى فرض ضريبة صغيرة على الورق والطوابع ومنتجات أُخرى مستوردة إلى مستعمراتها الأميركية، بوصفها وسيلة بسيطة لجعلهم يتحملون نصيبهم من العبء. لكن الأميركان رأوا في قانون الطوابع محاولة لفرض الطغيان عليهم، وجرى التنديد بالقوى الخفية من الأشرار الخبثاء الذين يتصرّفون من خلف الستار في الحكومة البريطانية، وأعلن بعد سنوات عن اكتشاف خطة يائسة للاستبداد الإمبراطوري قد تم وضعها، ونُفّذت جزئيّاً، من أجل القضاء على الحريات المدنية، وجرى إقناع العامة بأن الحكومة البريطانية تنوي استعبادهم.
لم تندلع حرب الاستقلال إلا وانتشرت قناعة بأن الإمبراطورية البريطانية تُدار من قبل مجموعة سرية تهدف إلى وضع البيض الأميركيين في العبودية، حتى إن جورج واشنطن حذّر من أن صانعي القرار في لندن ينوون تحويلهم إلى “عبيد خاضعين مثل السود الذين نحكمهم بسلطة تعسفية”. وأن هناك نظاماً للعبودية يتم تصنيعه ضد أميركا. وبدوره ندّد توماس جيفرسون بـ”خطة مدروسة ومنظمة تهدف إلى استعبادنا”. وأصرّ في إعلان الاستقلال على أن بريطانيا، كانت تهدف إلى فرض طغيان مطلق.
يتّفق المؤرخون اليوم على أنه لم تكن هناك خطة منهجية، ولا نية حقيقية لاستعباد البيض الأميركيين. ويجزم متخصّصون في نظريات المؤامرة بأن “المؤامرة لم تكن موجودة، لكن الأميركان كانوا يؤمنون بها بصدق، ويبالغون بها”.
لا تكفي السخرية من نظريات المؤامرة، ما يدحضها هو التفكير النقدي
بعدما انتصرت الولايات المتحدة في الحرب، لم يتبدّد الهوس بالمؤامرات، بل ما زالت مستمرة، ففي القرون اللاحقة، وُجِّهت الاتهامات بالتآمر إلى جماعات مختلفة: الماسونيين، والمورمون، واليهود، ودعاة إلغاء العبودية، والفوضويين، والشيوعيين، ومؤخّراً المسلمين، حتى إن فكرة “الدولة العميقة” التي تدير الحكومة، اعتبرت ببساطة النسخة الأحدث من الأشرار الخبثاء الذين يتصرفون من خلف الستار.
رغم الانفجار المعلوماتي، والشفافية في المجتمعات المعاصرة، لا يزال التفكير في المؤامرة حيّاً يرزق، بل يتجدد بوجوه وأساليب مختلفة. فسواء تعلق الأمر بالسياسة، أو الاقتصاد، أو الطب، أو حتى الكوارث الطبيعية، هناك دائماً فئة ليست بالقليلة ترى أن ما يجري خلف الكواليس أعظم مما يُعلن، وأن أيادي خفية تدير المشهد العالمي بذكاء شيطاني.
الملاحظ أنه في أوقات الأزمات الكبرى كالحروب أو الجوائح أو الأزمات الاقتصادية والفترات الانتقالية، تزداد شعبية المؤامرة، ويرتفع معدل الإيمان بها، فالأزمات تولّد حالة من القلق الجماعي، وعدم اليقين، والشكّ. وبما أن المؤامرة تقدم قصة متماسكة تلقي باللوم على طرف ما، فإنها تمنح المتلقي شعوراً زائفاً بالطمأنينة، ويجد في أن ما يحدث ليس مصادفة، هناك من يدبّره، إذاً لا بد من التصدّي له.
لماذا لا يزال التفكير في المؤامرة حيّاً رغم كل هذا التقدّم؟ لأن الناس تبحث عن تفسير للفوضى والقلق والخوف، فتقدّم لهم المؤامرة قصة مقنعة، بسيطة وسهلة. يمكن استغلالها لنشر الكراهية، أو تبرير العنف، أو تشويه الحقائق، أو قمع الأصوات المختلفة.
لذلك، لا يكفي مجرد السخرية من نظريات المؤامرة. ما يدحضها فعلاً هو تعزيز التفكير النقدي، وفي مثال قريب، ينتشر في سورية اتجاه نشط لتفسير المتغيرات الحاصلة على أنها مؤامرة مدبرة بالتنسيق بين تركيا والخليج وأميركا، وبما أن المؤامرة تشهد ازدهاراً يضيفون إليها روسيا وإيران وإسرائيل، تروّجها منصات إعلامية، وما قد ينجم عنها يشكل خطورة ليس من السهل تطويقها، تعمل على فقدان الثقة بين المجتمع والحكومة.
لا بد من الاعتراف، إنه في العصر الرقمي أصبح من السهل انتشار المعلومات المضلّلة والمغلوطة، بل أصبح بإمكان أي شخص أن ينشئ محتوى مثيراً دون التحقق من صحته. وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أرضاً خصبة لنشر الشائعات والأكاذيب، وتلقى دعماً من مواقع إعلامية تُفضّل المحتوى المثير على الموثوق.
-
المصدر :
- العربي الجديد