منذ دخولك إلى أغلب البلدان الأوربية تلاحظ التمييز بين الوافدين إليها، سواء كنت سائحاً أو لاجئاً، أو جئت للعلاج أو للتجارة. هناك دور لذوي البشرة السمراء (العرب والمسلمون ولو كانوا بيض البشرة، وشعر أشقر، وعيون ملونة). وأنت مطالب (خاصة اللاجئين) بتفهم ثقافتهم والاندماج في مجتمعاتهم، واستبدال مفاهيمك الأخلاقية بأخلاقيات، قد تكون مضادة لما تربيت عليها، وإلا طردت من البلاد، أو أخضعت لدورات تأهيل، على رأسها بالنسبة للنساء خلع الحجاب، وللرجال كف سلطته عن زوجته وأولاده.

يكتب الروائي البريطاني الهندي سلمان رشدي، عن يوم قضاه عند حاجز الهجرة في مطار هيثرو، يراقب معاملة موظف الهجرة للقادمين. لم يدهشه ملاحظة أن معظم المسافرين الذي واجهوا بعض المتاعب في عبور نقطة التفتيش، لم يكونوا من البيض، بل كانوا سوداً أو لهم ملامح عربية. ما أدهشه هو أن الذي تجاوز معضلة اللون الأسود أو الملامح العربية، هو امتلاك جواز سفر أمريكي: “فما إن تُظهر جوازاً أمريكياً، حتى يصاب موظف الهجرة بعمى الألوان ويلوح لك لتمضي في طريقك، مهما تكن ملامحك مثيرة للريبة”.

الغالبية العظمى الذين سيجتازون حاجز الجمارك، لا يحملون الجواز الأمريكي المحظوظ، وقد لا يعرفون أنهم سيدخلون عالماً متربصاً بهم، يراقب تصرفاتهم، ويوجب عليهم إدراك ما يفرقهم عن الآخرين، وهي كثيرة، خاصة لون البشرة والدين. بينما لنقل إن الأغلبية الساحقة من القادمين، تغلبهم مشاعر أنهم سيتنفسون نسائم الحرية، وإذا كانت لديهم مخاوف فهي أن ينشأ عائق يمنع دخولهم.

في الواقع، لا ينظر بعين الرضا إلى اللاجئين في محاولاتهم التعبير عن ثقافتهم، وإذا سمح لهم بالكلام عن مآسيهم، فلأنها اعتراف بما أصابهم في بلدهم الأصلي، لا تعدو سوى تقديم طلب انتساب إلى حضارة البلد الجديد، والتعهد بالتقيد بشروطها في تصرفاتهم، فيما بعد سيعرف، أن التصرفات مجالها واسع، لا تتعلق بالتجاوب معهم اجتماعياً فقط، ولا بطبع ابتسامة شكر دائمة على وجهه، بل بالتخلص من أخلاق بلد المنشأ التي ينبغي ألا يحمل رواسب منها. والبدء بتعلم لغتهم، والعمل على تربية أطفاله مثل أطفالهم، والتعامل مع زوجته مثلما يتعاملون مع زوجاتهم، وإلا كان محل ريبة، والنظر إليه على أنه من غير طينة البشر الطيبين، هذا على أقل تقدير.

حسناً، لقد اقتلعت من أرضك، هذا ليس ذنبهم، إنه ذنب بلدك الأصلي، وهم ليسوا مسؤولين عنه. لقد أصبحت في أرض أخرى، وهنا تبدأ مسؤوليتك، قد تتقوقع على نفسك، أو تنطلق إلى عالم قد يكون واسعاً.

العوائق الكأداء هي الدين والأخلاق، فالمفاهيم الأخلاقية والنواهي الدينية، لا تتغير بين ليلة وضحاها، لكن الدول الغربية تخشى من التأثر والتأثير، لذلك تتذرع بأن اللاجئين المسلمين قد يتحولون إلى متشددين دينيين، أو قنابل موقوتة. خاصة أن أجواء الحرية في بلدان اللجوء متوافرة، لكن كيف سوف يستوعب اللاجئ هذه الحرية العظيمة التي بات يتمتع بها. ومثلما توجد في داخله رواسب قمعية تحول بينه وبين التحول السريع، كذلك توجد نوازع ليؤكد على هويته، ربما بالعنف والثأر والانتقام، حتى من الحضارة التي فتحت له أبوابها، لكنها على حذر من تدينه، وقد لا تعامله بإنصاف، وتفتح له مجال العمل، وربما لا تفتح له قلبها.. وما يحيره، هو: لماذا يسعون إلى تغيير مفاهيمه الاجتماعية والدينية، بينما يوجد في بلدانهم آباء وأمهات يذهبون إلى الكنيسة، لا يشربون الكحول ولا يدخنون، ولديهم مفاهيم أخلاقية لا يتنازلون عنها، لماذا لا يسعون إلى تغييرهم؟

وإذا أخذنا بالحسبان، أن اللاجئين لم يفروا من بلدانهم ناجين بحياتهم وأولادهم وأديانهم، إلا ليتخلصوا من القمع الذي صادر حرياتهم. وما العناء الكبير الذي بذلوه إلى حدود القبول بالموت إلا تعبيراً عن حاجتهم إلى مجتمع يجعلهم يحسون بالأمان، لكن ما تضطرهم إليه حكومات الدول وقوانينها هو الانصياع لعالم مهما كان رائعاً، لكنه غريب، إلى حد الشعور بأنه سيكون أسير رضاهم عن سلوكه، وإذا لم يتقيد به فهو معرضٌ للعودة إلى بلده، أو التشرد في بلدان شبيهة. هذا الخوف زرعه فيه نظام الحكم الدكتاتوري في بلده الأصلي التي فرّ منها. هل هذا الحصار واحد من أسباب انتحار اللاجئين في بلدان الحريات؟

ليس هناك ثقافة بل ثقافات، والثقافة الحق لا تضع حدوداً قسرية لبرمجة التفاهم والتفاعل، الثقافة ليس في أن تكون مفروضة. إذا كان الغربيون على قناعة مطلقة بثقافتهم، فلا يعني أن اللاجئين على استعداد لتقبلها بيسر، ثمة مقاومة داخلية رغماً عنهم، إنها تراكمات عمر، ورثوها ورضعوها مع الحليب، وتشكلت تحت الرعب، فيجب عدم انتزاعها تحت وطأة التهديد، لكن مع الوقت سيحصل التلاقي الإنساني، فالإنسانية لا تخطئ جوهر البشر، كما أن الأخلاق يمكن اعتناقها ويمكن رفضها، هذه هي الحرية.

اليوم، بعض البلدان المتحضرة، لو حاول سوري طلب الهجرة إليها، يجب حسب المعتاد أن يجيب عن أسئلة في طلب الفيزا، لكنه سيفاجأ قبل كتابة حرف واحد، بملاحظة: ما عدا السوريين. هذا ما يضعنا أمام عالم مغلق.