حسب النظر الواقعيّ، ما يحرّك البشر هو الثروة والقوّة والجنس، وهي نظرة تُبرهِن عليها حياتُنا اليومية؛ هذا الثلاثي يحرّك غالبية البشر، لكنْ بقدر مختلف إذا شئنا الدقّة، بحسب نصيب الناس من كلّ منهم. فالثروة ــ كما نعرف ــ مخصّصة للأثرياء، والقوّة للأقوياء، أمّا الجنس فللأثرياء والأقوياء: لا جنس مجّانياً. مع هذا، ليس عموم البشر محرومين، وإنّما زاهدون، أو مضطرّون إلى التقنين، لذلك نراهم يلهثون وراء هذا الثالوث لتسكين جوعهم، ودونما جدوى.

الملاحظة الجديرة بالتوقّف عندها، هي استثناء الدين كمحرّك للبشر، مع أن تأثير الدين لم يتراجع في بلادنا، بل كان في تصاعد طوال العقود الأخيرة، وشهد تقدّماً وتراجعاً في بلدان العالم، ما يعني أنه ما زال مؤثّراً فيها، مهما اختلفت نسبته، فهو باقٍ في دخيلة البشر من دون استجابة حاسمة إلى وجهة نهائية.

أمّا أسباب استثنائه، فالاتّجاه الحالي ينحو إلى عزله، وتخصيصه عن عمْد بمجموعات متشدّدة ومتطرّفة، فتصبح مرجعيّته المنظّمات الإرهابية، ويُشار إليه باعتباره مصدراً للرعب، ما هدّد المسجد والكنيسة والكنيس، مع أن ثلاثتهم لا يخلون من قدْرٍ ما من التعصّب، والكثير جدّاً من التسامح الذي لم يُغفر لهم. باتت الأديان تحت الرقابة كأحد مصادر زعزعة الأمن في العالم. لم يعد يُعترف لها بتوريد مبادئ الإيمان والدعوة إلى الأخلاق والخِصال الحسَنة، وإنّما بإرهابيين وتفجيرات ومفخّخات وتصدير شهداء لا يُوْثَق بشهادتهم.

استُعيض عن الدين بالأخلاق بالعلمانية، بعدما جرى التلاعب بها؛ لم تعد العلمانية تقلّ تشدّداً في المنع والحظر عن الدكتاتوريات؛ تستمدّ منها العزم، بعدما أصبح هناك علمانيات: صلبة ومائعة وحقّة ورخوة ومقاتلة ومناضلة وهجومية ودفاعية… أغلبها مفبركٌ ودخيل.

حقّق العسكر مصالحهم اعتماداً على ما يسمّى بالنظر الواقعي

يمكن القول في تفسير هذا المناخ العنفيّ السائد، إننا نعيش في عالم متطرّف يستعمل مفردات متطرّفة تهيّئه لأفعال متطرّفة، فالقول يسبق الفعل. وهو ما يشمل الحكومات، بالدرجة الأولى، في معالجة أزماتها مع شعوبها وخلافاتها مع البلدان المجاورة، حيث استردّ القمع حظوته في الداخل، والحروب حظوتها في الخارج، كأسلوب أصيل في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكذلك في العلاقات الدولية، التي يكمن وجهها الآخر في تعاملها مع الأديان سلباً أو إيجاباً. فالإيجابي مثل السلبي، إذ تتساوى محاربة الأديان مع المبالغة في الدفاع عنها، إلى حدّ أنه، في الحالين، لا يعفّ أحدهما عن تصفية الآخر.

تستند الحكومات في تقييماتها لدواعي الأمان، إلى جهاز المخابرات، وهو جهاز أمن، وإن كان لا يمنح الأمان. فالتقييم جزافيّ بالنسبة إليه، ليس لصعوبة فصل المتديّنين عن المتطرّفين، لكنّ الأدعى للطمأنينة وضْعُ كليهما في دائرة الاتهام، ولو أصابت الكثير من الأبرياء.

وجدتِ الحكوماتُ حلّاً للأديان باستثمارها من خلال دعاةٍ متواطئين، وعلى الجانب المقابل هناك علمانيون متوحّشون، وكلاهما إلى جانبها، لا ضدّها. فالحكومات مدعوّة إلى القتل، ويمنحها ما يُدعى بالدين الجديد صكَّ البراءة، وكذلك ما يُدعى بالعلمانية الجديدة، الموعودة بإيديولوجيا المستقبل.

هذا الاتّجاه في التصحيح الإيديولوجي، عمل عليه العسكر بشكلٍ مبكّر عن غير وعيٍ كامل، حقّق مصالحهم في السلطة، اعتماداً على النظر الواقعي (بالمناسبة، دُعي بـ”الحركة التصحيحية”) وجاء مَن روّج لهذه الفكرة الحداثية، واعتُبرت البداية العظيمة لحُكمٍ يدوم إلى الأبد، وبات استمرارها على الوتيرة نفسها امتحاناً لها، فكان أن استحثّوا مَن جاء بعدهم، على متابعة السير على النهج نفسه، مع أنه كان المؤسِّس لكوارثنا. والعبرة في تاريخٍ يُتابع مسيرتَه بتلكّؤ، ويؤكّد المرّة تلو المرة: هذا ليس تصحيحاً، بل دمار.

من الواجب اليوم ــ وهو واجبٌ لا واجبَ قبله ولا بعده لهؤلاء الذين يريدون إنقاذ ما يمكن إنقاذه ربّما ــ إعادةُ المعنى الحقيقيّ إلى التصحيح، وإلّا انقلب إلى ضدّه؛ فاللغة لا تقبل الخديعة، ولا يطول الزمن، ويترسّخ ما يجب زواله، بالمبادرة إلى التصحيح، تصحيح أفكارهم عن الآباء، كي لا يخدعهم الأبناء، فالأحفاد قادمون.