شكّلت الشيوعية برنامجاً واضحاً لتغيير العالم، لم تنقصه النظرية المادية، ولا صراع الطبقات، أو البروليتاريا، ستأخذ العالم إلى العدالة والمساواة، من خلال إقامة مجتمع خالٍ من الطبقات والملكية الخاصّة، وإرساء نظام اقتصادي مركزي وموجَّه، بينما قطار التاريخ كفيلٌ بأخذنا إلى الشيوعية.

حسب منظّرين، أحدُ أخطاء الشيوعية الكبرى عدم التزامها بالماركسية، رغم أنّها لم تعدم أصواتاً من داخل بلدان العالم الاشتراكي نادت بالعودة إلى الماركسية ذات الوجه الإنساني، حصدت نتائجها القاتلة في انتفاضة بودابست وربيع براغ. وما سقوط الشيوعية إلّا في تجاهُل هذه النداءات، ومحاولات قمعها بالدبّابات.

سقطت الشيوعية وخرجت من العالم محمَّلةً بأوزار الإعدامات والمجاعات والمنافي والإبادة. ولئلا نبالغ، إذا كان للشيوعية نصيب في عدم استدراك أخطائها، فإنّ النصيب الأوفى لستالين، في تشبُّثه بالديكتاتورية كوصفة لحماية المنجزات الاشتراكية، لكنّها لم تحمِ سواه، أمّا المنجزات فأجهضها ملايين الضحايا. وهكذا عرف العالم الاستبداد الشيوعي، ولم يقلّ عن الاستبداد المتداوَل في التاريخ، ما دلّنا أنّ الاستبداد متشابه إلى حدّ القول إنّه من جذر واحد: الطاغية.

مثلما أنّ الشيوعية لم تعُد تهدّد العالم، ليس بوسعها إنقاذه

اليوم، يبدو أنّ اليسار يفتقد الشيوعية، وبحاجة إلى طاغية كي يُنفّذ سياساته، فوجدها في ديكتاتورياتنا الرثّة، المهم أنّها ضدّ الأميركان علناً، أمّا في السرّ، فمن يدري؟ من طرف آخر لم تمانع الديمقراطيات الخجولة ظهور يسار حازم، تقمّص الليبرالية بحدودها القصوى، وكانت مروّعة في هلوسات الجندر وإعادة تعريف البشر إلى حدود لم يعُد هناك رجُل ولا امرأة، وتعليم الأطفال في المدارس الخروج عن جنسهم.

يبدو الغرب، فيما أثارته الأقلّية المتحكّمة في الديمقراطية، أشبه بالمهزلة، ماضيا إلى الأمام، ولو كان يعرج. ولئلا نستخفّ بها، لديهم منظّرون وعلماء وأتباع ومؤيّدون، ورجالات في الدولة يحتلّون مراكز فاعلة ومهمّة، وما يسعون إليه، يبدو أنّه لا يعنينا، لدينا ما يشغلنا عنه، لكن لن يطول الوقت عندما يطالبوننا به.

عموماً، نحن لا نزال في القرن السابع عشر، نصنع ثورات ندفع أثمانها باهظاً، فالغرب لا يهتمّ بها إلّا إعلامياً، يتابع أخبارها كما يتابع أخبار الموضة. أمّا على مستوى الحكومات، فما يُقال غير ما يُفعل، ما يريدونه منّا ما زال على حاله، النفط مع ما لا يقلّ عن استعمار اقتصادي، وعملاء للقضاء على الإرهاب.

لن نهتمّ بالجندر ولا بالمثلية والمتحوّلين وغير المتحوّلين جنسياً، طالما العالم يجتاز برأينا فاصلاً من الطرافة المؤلمة، ضحاياها من نوع جديد، وان كانت تُشكّل كارثة حسبما يدّعي أولئك الذين يشبهوننا من حمَلة المعتقدات والآراء القديمة، خاصّة أنّهم يواجهون أنظمة تعليمية تفرضها مؤسّسات ديمقراطية بأسلوب جديد، الاقتناع وإلّا…

هل ننتظر ثورة في الغرب ضدّ الليبرالية المتطرّفة؟ منذ عقود يُشاع أنّ الرأسمالية في أزمة، حان الوقت كما يبدو لإخفائها بقضايا ثانوية، بهدف رفعها إلى قضايا إنسانية إشكالية، بينما اليسار غير الليبرالي يأمل في عودة الشيوعية بحلّة إنسانية، ولا اعتراض، ما دام الحديث عنها يدور في الجامعات والمنتديات وصفحات الرأي، فالشيوعية مثلما أنّها لم تعُد تهدّد العالم، ليس بوسعها إنقاذه، والغرب لا يجد فيها عدوّاً، ما دام لديه عدوّ، الإرهاب، ويجهد في إطالة عمره، وفي ما لو اختفى أو انتهى، فالعالم في مشكلة لن يجد عدوّاً ولا صديقاً، إلّا أولئك القادمين من الفضاء الخارجي… فليقدح الغرب زناد أفكاره، ربما في إعادة الروح إلى الشيوعية، كان عدوّاً نموذجياً، لكن بوتين أثبت أنه غير مؤهّل، أقصى ما فعله إخفاقٌ في استعادة القيصرية، وولادة مافيا على النمط الغربي، وربما أسوأ، كما أنّ مرتزقة فاغنر تمرّدوا عليه، ولم تعُد الحرب في أوكرانيا إلّا السقوط في مستنقع، بعدما نجا من المستنقع السوري، لكن ليس تماماً.

ربّما كانت هذه الطروحات معقولة بالنسبة إلى عالَم تشابكت مصالحه وهفواته وجرائمه، وتفتّقت عن استعادة ما تجاوزه في القرن الماضي، فالانقلابات عادت من النافذة الأفريقية، دشّنها عسكر مصر، وتابعتها تونس في انقلاب كان مرائياً، أمّا في الجزائر فالعسكر باقون… لن نتحدّث عن سورية، أصبحت مثالاً على واحد من أسوأ ما مرّ على البشرية، إلى حدّ يمكن اعتبار دولة بهذا النظام أشبه بكوميديا فظّة ما زالت قائمة تحت أنظار العالم، نظامٌ يدعو إلى الخجل من فرط تفاهته، لا يستولد سوى المصائب على شعبه، لكنّه يُمثّل النجاح الكامل لمأثرة الانقلابات، بات لا مفرّ منها، لم يجْر التنبه إليها، طالما الديمقراطيات تنظر إليها من منظار مصالحها، لا العدالة، ولا يُستبعد أن تطاولها الانقلابات هي نفسها، طالما أنّها تفقد مناعتها مع الوقت.

لا بدّ من الاعتراف بأنّ هذه الطروحات أصابتها لوثةٌ لا تُخفي الحسّ الروائي في مفاصلها. فلنقُل إنّ الرواية، ولو أنّ الخيال داعبها، طالما حذّرت من العسكر، ليس تنبّؤاً، ولا ضرباً في الغيب، بل فرضَها واقعٌ مستمرّ، منذ فتحنا عيوننا على هذا العالم، يجهد العسكر لإنقاذ البلاد من التسلّط والجهل والفقر والفساد والاحتلال. أمّا لماذا العسكر، فلأنّهم صالحون وبررة. أمّا النتيجة فبلد مثل سورية أو مصر.

العسكرُ هُم النخبة في عالَمنا، وهي النخبة نفسها التي صنعت القرن الماضي، ومثلما ضمّت آينشتاين وماركس وفرويد، شملت ستالين وهتلر وموسوليني.