لا تقلّ المعارك الفكرية ضراوةً عن المعارك السياسية، ولا تنتهي بقدر ما تتجدّد تحت عناوين مختلفة؛ كلما حقّقت تقدّماً، أو تراجعاً، ينعكس ذلك على الأحوال السياسية. ما يبرهن على أنّ السياسة، مهما انحرفت، تستقيم تحت تأثيرها. وفي حال هُزم الفكر، لا يُفلس بل يُعاود على أمل تحقيق انتصار، ما يبشّر باحتجاجاتٍ، وربما قلاقلَ، ولا تُستبعَد من الحسبان انتفاضةٌ أو ثورة، والتاريخ شاهدٌ على أنّ المخاض الفكري يمهّد للتغيير السياسي، ولا يحصل من دونه.
من أبرز المعارك الفكرية كان صدور “الموسوعة” عام 1751 تحت عنوان: “الموسوعة أو القاموس العقلاني للعلوم والفنون والحِرَف”. كانت من أضخم المشاريع الثقافية في ذلك العصر. استمرّ العمل عليها حتى عام 1772، ولم تتوقّف المعارك حولها طوال هذه السنوات وبعدها.
وراء إصدار الموسوعة الفيلسوفُ دنيس ديدرو، وكان عالماً بالطبيعيات وروائياً وكاتب مسرحيات. استقطبت الموسوعة مشاركة معظم مثقّفي ذلك العصر، من فولتير إلى دلامبير وجان جاك روسو وآخرين. كان الهدف منها: “جمع المعارف المتبعثرة على سطح الأرض، وشرحها بشكل واضح ودقيق لأناس عصرنا الذين يعيشون معنا، ونقل هذه المعارف إلى الأجيال اللاحقة، كي لا تظلّ مكتشفات العصور الماضية مجهولةً بالنسبة للقرون المقبلة. كما ترمي إلى تثقيف أبنائنا وجعلهم أكثر فهماً ومعرفة ليصبحوا أكثر نزاهة وفضيلة وسعادة، وهكذا نكون قد قدّمنا خدمة للبشرية واستحققنا صفة الانتماء للإنسانية”.
بعد التنوير، ما زال العالَم بحاجة إلى المزيد من النور
أُطلقت على المساهمين في “الموسوعة” تسمية فلاسفة التنوير، لدعوتهم إلى تنوير العقول المثقلة بخرافات العصور الوسطى، وانصبّ اهتمامهم على نزع مظاهر التقديس والأسطورة عن المعرفة السائدة، فطبّقوا المنهج النقديّ على العادات والتقاليد والعقائد الدينية ومجمل الأفكار التي كانت مسيطرة على عقول الناس في أوروبا.
شهدت “الموسوعة” رواجاً منقطع النظير دلّل على التوق للمعرفة، والجرأة على التفكير والابتكار، والرغبة في النقد والتشكيك. بينما رأت السلطات الرجعية في إصدار “الموسوعة” مشروعاً مضاداً، ومنافِساً خطيراً على أرضية الفكر والثقافة. كانت الخشية من نجاحه في انتزاع الشبيبة لحساب التنوير، ما يشيع الأفكار الهدّامة، والعقائد الضالّة، ما أدّى إلى رفع الشكاوى إلى الملك بزعم احتواء “الموسوعة” على أفكار تؤدّي الى المساس بالهيبة المَلكيّة، والتشجيع على فساد الاخلاق، ونشر الإلحاد في المجتمع.
صدرَ أمرٌ ملكيّ عام 1759 بإدانة “الموسوعة”. كما صدرت إدانة لاهوتية، تضمّنت حظر نشر هذا الكتاب الفاجر الفاسق الذي يهدف الى تدمير الأديان والعقائد المقدّسة. فلوحقت “الموسوعة” وصودرت أجزاؤها من قِبَل الرقابة، وحُرقت على الملأ في باريس، ما أدّى إلى توقّف صدورها.
لم يستسلم ديدرو رغم ما تحمّل من مشاقّ وما تعرّض إليه من منع. كان عنيداً ومصمّماً على المضيّ في مشروعه حتى النهاية. لكنّ المساهمين معه أصبحوا تحت الرقابة الرسمية، واضطرّ بعضهم الى الاختباء، وآخرون غادروا إلى المنفى. على أنّ “الموسوعة” ستُعاود الظهور، من شدّة إصرار ديدرو على مشروعه.
قصّة “الموسوعة” مرويّةٌ هنا باختصار شديد. إن كانت تدلّ على شيء، فعلى تغيير الواقع من خلال الفكر، وعلى ذلك الترابط الوثيق بينهما. وأكبر دليل على نجاح “الموسوعة” أنّ معظم أفكارها أصبحت حقيقةً واقعة. فالثورة الفرنسية حصلت بعد صدورها بعشرين سنة، كانت فترةً كافية لزرع بذور الأفكار الجديدة؛ كذلك قيام نظام تربويّ وفكريّ حديث، بعد نصف قرن. لم تذهب جهود التنويريّين ولا عذاباتهم سُدىً، ولقد أدّت إلى ما كانت المَلكية الاستبدادية تخشاه: تفخيخ النظام القديم وإسقاطه عن طريق بثّ الأفكار الجديدة. وكان فولتير على صواب عندما رأى في “الموسوعة” أكبر معركة فكرية في التاريخ، انتهت بانتصار النور.
ثمّة ما يجب إضافته؛ العالَم ما زال بحاجة إلى المزيد من النور، فالظلام يأتي متنكّراً، لا سيّما في بلادنا، بما معناه ألّا نضع الديمقراطية والعلمانية والدين بخدمة الدولة الاستبدادية.
-
المصدر :
- العربي الجديد