المأساة الفلسطينية قصّةٌ بسيطة جدّاً، ومُؤلمة جدّاً، أحياناً مجهولة، وكثيرون لا يعرفونها، مثل الإسرائيليّين الجُدد من الأجيال الشابّة، وإذا كانوا على اطّلاع عليها، فبحدود لا تتعدّى تلك “الصيغة النظيفة” غير البريئة: “فلسطين أرض بلا شعب”، أرض خلاء، وعَدت التوراةُ الشعبَ اليهودي بها، ولم يكن الهولوكوست إلّا إيذاناً بعودتهم إليها بعد آلاف السنين بعدما تفرّقوا في أرجاء العالم. إذاً حان وقت العودة فعادوا. إنهم شعبٌ مختار، يحقّ لهم فعلُ أيّ شيء، لذلك عندما يتحدّثون عن ملكيّتهم لفلسطين، وحقوقهم المُطلَقة، يشيرون بصَلَف إلى أنّ أرض فلسطين ليست أُعطية من أحد، بل منحة من الله، ولو أنّهم استولوا عليها.

بينما القصّة المعقّدة أكثر التباساً، خاصّةً أنّ الغرب ضالع فيها، وعلى معرفة جيِّدة بها، فهو الذي صنعها، وارتكب الفعل الأكثر غدراً. استُولدت “إسرائيل” ممّا يُمكن دعوته بالشرّ المُطلق للغرب، تكفيراً عمّا ارتكبوه حيال اليهود، فالدول التي لم تحرقهم، قامت خلال الحرب العالمية الثانية بتسليمهم للنازيّين. جريمة يصعب غفرانها، إلّا بتعويضهم بوطن، خاصّةً أنّ شعوبهم ربما ما زالت تكنُّ العداء لهم، وإذا كانت هذه العداوة قد غفت، لكن يُخشى أن تستيقظ. لماذا؟ نحن نجهلها، لا بدّ من توجيه السؤال إلى الغرب، فهي لُغز بالنسبة إلينا.

سُعار مكارثي لم تسلم منه حتّى الكوفية الفلسطينية

الحقيقة في القصّة الفلسطينية، من فرط ما هي معروفة وراسخة، لا تحتاج إلى برهان ولا أدلّة، كلّ شبر فيها يعود إلى الفلسطينيّين، احتاج إنكارها والعبث فيها إلى جهد هائل للتعتيم عليها، على مدى خمسة وسبعين عاماً، واحتاجت إلى قدر من الأكاذيب يصعب تصوُّر حجمه، أسّس لها دُعاة الفكرة الصهيونية، وشارك فيها رؤساء دول ووزارات ووزراء وسياسيون محتالون، وصيارفة لصوص، وصحافيون بلا ذمّة، وعلماء آثار مُزيّفون، ومتديّنون ومُلحدون، وعملاء وجواسيس وعاهرات وخونة ومجرمون من جميع الأنواع، اعتبرها الغرب قضيةً مقدَّسة تُمحى بها ذنوبه، بعدما اضطُهد اليهود على مدار التاريخ، لكن بذنب أكبر، كان نهب أرض وقتل شعب.

تحت تأثير “طوفان الأقصى”، طُرحت القضية الفلسطينية في شوارع العالم على الرأي العام، وتحت تأثير هذا الانتصار، أعطى الرئيس الأميركي الضوء الأخضر للإسرائيليّين بالدفاع عن أنفسهم، أي بالانتقام بالتدمير المُفرط والقتل الوحشي، ما يُداوي جراحهم وذُعرهم. سرعان ما تحوّل الانتقام خلال أيام قليلة إلى حرب إبادة، ولم تعُد المجازر الجماعية صالحةً لتحويل المُجرم إلى ضحية، ولا مواتية للعمل على تحويل الهزيمة الإسرائيلية إلى نصر قادم، بينما أصوات الحكومة الإسرائيلية تتوعّد بالإجهاز على حماس، وتطمح إلى تهجير أهالي غزّة، وأصبح القرار الأميركي والأوروبي استغلال “طوفان الأقصى” للتخلّص من القضية الفلسطينية.

يستعيد الغرب ماضيه الاستعماري، ويستعيد معه ما رسّخه، وما طرأ من أكاذيب، لا يُمكن معاودة استخدامها من دون إسكات الأصوات التي تعالت في انتقاده من مختلف الجهات والمنظّمات والباحثين، إضافة إلى الطوفان البشري في عواصم العالم تأييداً لحقّ الفلسطينيّين في مقاومة الاحتلال، وإدانة “إسرائيل” والغرب على اقتراف أكبر عمل إجرامي في القرن العشرين ما زالت آثارُه فاعلة في القرن الحادي والعشرين… ما جرى ويجري هو محاولة إخفاء هذه الجريمة.

ما نشهده خلخلةٌ للأفكار السائدة وما استقرّ من أكاذيب

تَجدّد الصراع في الإعلام ووسائل التواصل حول حقوق الفلسطينيّين. وتعالت الأصوات المؤيّدة لوقف الإبادة في غزّة، وتكاثرت من يوم ليوم. منذ اللحظة الأُولى، تشاركت في قمعها دول الغرب، بقيادة أميركا انسجاماً مع سابقتها المكارثية، واستحقّ انتشارها في بلدان أوروبا وصف المكارثية الشمولية، جنّدت لها محطّات إعلامية، ورقابة مشدّدة في وسائل التواصل، وتصريحات لوزراء وسياسيّين تتوعّد وتهدّد وتمنع كلّ من يُعبّر عن رأيه إلى جانب الحقّ الفلسطيني، حتى انحدر القمع إلى طرد موظّفين من عملهم، أو إنهاء التعامل معهم، والاعتقال بسبب منشور يُعتبر أنه مخالف للقانون.

بينما انطلقت أبواق بلغ بها الهذر كما في مجلّة “الإيكونوميست” البريطانية، برّرت قتل نسبة عالية من أطفال الفلسطينيّين إلى سياسة حماس في تشجيع الولادات، كذلك محطة “بي بي سي” التي كانت تستخدم أوصافاً مُحايدة عند تغطيتها التلفزيونية، خضعت لتعليمات الحكومة البريطانية ووصفت ما كانت تطلق عليهم “الفصائل الفلسطينية” بـ”المنظّمات الإرهابية”، تذرّعت بأنه أكثر دقة مع المتغيّرات، مع أن لا شيء يستدعي هذا التغيّر، فحماس حركة تحرُّر وطني، ومقاتلوها كانوا منذ سنوات في معركة مع الكيان الإسرائيلي وما زالوا.

في هذا السُّعار المكارثي، حظرت فرنسا وألمانيا إبداء أيّ رأي مُخالف لتوجّهات حكوماتها، أو أية مظاهر تُوحي بفلسطين كارتداء الكوفية الفلسطينية، وبات من الممنوع نقد السياسة الإسرائيلية، مع أن انتقادها واردٌ داخل “إسرائيل” نفسها. بات الإعلام في الغرب يُنافس الإعلام الصيني والروسي والكوري الشمالي، في ترديد ما تريده ديكتاتورياتهم.

ليس العالم بلا ضمير، ولا أنّ ضميره بدأ يستيقظ، بل بدأ يعرف، بدأ يرى، بدأ يفكّر. ما نشهده هو خلخلة الأفكار السائدة، وما استقرّ من أكاذيب، كان تحت سطوة إعلام متحيّز زرع في الرؤوس أن “إسرائيل” الديمقراطية الوحيدة بين بلدان دكتاتورية تُريد شعوبها المتخلّفة القضاء عليها، بينما مسيرة “إسرائيل” الدموية منذ خمسة وسبعين عاماً تشهد أنّها سيرة كيان إرهابي، شرّير وبغيض، حاقد وعنصري.