لم يُصادَف في تاريخ العلم أن علماءَ امتهنوا التزييف. حسب مؤرّخ العلوم مايكل دي غوردن: لا يمكن تصوّر وجود شخص يستيقظ صباحاً، ويتوجّه إلى معمله الزائف، لإجراء بعض التجارب الزائفة، في محاولة لتأكيد فرضيات العلم الزائف بنظريات زائفة.

هذا لا يُعقل عند العالم الباحث عن الحقيقة، ويعتمد الشك حتى في الحقائق المستقرّة، لبلوغ حقائق أكثر رسوخاً. ليس لأن العلم لا يقبل ولا يسمح به فقط، وإنما كل ما يؤثّر في حياة البشر، الأولى أن لا يشتبه بما هو ضدّه، وبالتالي ما يُمنَع في مجال العلم، يمتنع في المجالات الأخرى، فالحياة ليست ساحة مفتوحة لصناعة الزيف.

هذا الفعل المستنكَر، نجد تطبيقاته في بلدان منطقتنا، ولا يحتاج تصوُّره إلى خيال أو عناء، خاصّةً أن الأنظمة وفّرت ما يفيض عنه، فجاراه وفاقه رسوخاً ورعباً، ما دامت السجون والمشانق تساندها. بات من الطبيعي تصنيع الزيف وتعميمه، حتى أصبح من طبيعة حياة لا تستقيم من دونه.

” يبدو تصنيع الزيف مهمّةً وطنية تقع على عاتق كل جهة أو جهاز أو مؤسَّسة”

لن نضطر إلى تصوُّر ما تقوم به الأنظمة، ما دامت تمارسه علانيةً. فعند حلول موعد الاستفتاء على رئاسة الجمهورية، تنشط غرف العمليات المخابراتية، ليس لتأمين التأييد اللازم لاختيار الرئيس لمدّة أخرى، لا، فهذه مضمونة، وإنما لدفع الشعب إلى التهافت لإبداء الشكر والمديح لمقام الرئيس بنشر الأعلام والصور وإنشاد الأغاني وتوزيع القهوة والحلويات، عدا لعلعة الرصاص والأشعار والشعارات.

جميعها من تأليف وإشراف غرف العمليات النشيطة التي لا ترضيها أن تنخفض نسبة الـ”نَعَم” عن رقم قياسي يقارب الكمال، وانعكاسه على حركة الشارع بالاحتفالات ومظاهر الابتهاج الزائف، ولو لم يشارك في الاستفتاء سوى الذين جُرجروا إليه، سواءً كانوا موافقين أو غير موافقين، فالنتائج جاهزة وفرز الأصوات شكلي لمجرّد إذاعته في نشرات الأخبار المحلية والعالمية.

في الانتخابات النيابية، تُعنى الأجهزة الأمنية بإبراز مرشّحين وإخفاء مرشّحين، والتلاعب بالصناديق، والتحكُّم في النتائج، حسب ادعائها، خشية تسلُّل نائب يتصيَّد الشعبية بإثارة قضايا تهدّد استقرار المجتمع.

أمّا الحزب القائد، فيقوم بتنظيم مسيرات تعبّر عن وفائها الأعمى للرئيس الخالد. بينما تتجلّى مشاركة الأحزاب التقدُّمية بالتأييد المفروغ منه، عرفاناً بالجميل نحو الرئاسة لاعترافها بها، لولاها لم تكن أحزاباً ولا تقدُّمية، فالبلد تُدار من دونها ومن دون الحزب القائد.

يسري التزييف في الدولة الشمولية، دونما استثناء أي مجال، بحيث يبدو تصنيع الزيف مهمّةً وطنية تقع على عاتق كل جهة أو جهاز أو مؤسَّسة، وأكثر ما أدّت دورها في الحرب ضد “الإرهاب” عبّر عنه الموالون، بإلصاق الخيانة بالثورة الشعبية، بينما انصرفت المخابرات إلى القيام بواجبها في انتزاع اعترافات المعارضين وتزييف اعترافاتهم.

وفي المستشفيات العسكرية انصرف الأطباء إلى تزييف أسباب الوفاة، وفي المعتقلات إلى إنكار وجود المعتقلين. تأسّياً بالمزيِّف الأكبر، منكِر القتل والتدمير والكيميائي والبراميل المتفجّرة… كان دليلَ المزيِّفين الصغار.