رغم مضي قرنين على صدور “كبرياء وهوى” و”عقل وعاطفة” للروائية الإنجليزية جين أوستن، ما زالت رواياتها تلقى إقبالاً، بدليل الطبعات غير المحدودة، ونقلها إلى السينما والتلفزيون عدة مرات في العقدين الأخيرين. ذلك مع أن أنماط الحياة اختلفت، والتقاليد الاجتماعية الفكتورية المتزمتة آلت إلى زوال.

أما بالنسبة إلى الأدب، فلم يهتز العرش الذي تربعت أوستن فوقه، وما زال الانتقاد الوحيد الذي وجّه إلى رواياتها صامداً، وهو تجاهلها الأحداث التاريخية في زمانها، والاكتفاء بوصف الحياة الهادئة اليومية لمجتمع طبقة ملاك الأراضي في الريف الإنجليزي، بينما حروب نابليون في القارة الأوروبية مغيبة عنها، والتي كان لمشاركة بريطانيا السبب الأكبر في هزائمها، من دون أن تنتهي شعارات الثورة الفرنسية التي لم تتراجع، وأطاحت بأغلب الأنظمة السائدة.

علاقة الرواية بالثورة والحروب والسياسة لم تنقطع، على الرغم من نفي المعاصرة عن الروايات التي تتناول الحروب والثورات، لأنها تكتب عن زمن مضى، إذ لها علاقة بالتاريخ. فـ “الحرب والسلام” كتبت بعد أكثر من نصف قرن على غزو نابليون لروسيا، ما أدى إلى أن رواية الحرب لا يجوز كتابتها إلا بعد مضي زمن طويل، ليتمكن الكاتب من استجماع ما دار في كواليسها وجبهاتها وخنادقها ومحادثاتها السرية.

“الرواية تهتم بالبشر في غمرة مآسيهم الإنسانية. هل ثمة مأساة أكبر من الحرب؟”

وهو اعتقاد لو تسلط على كتابة الرواية العربية، سيعني أن الحروب الجارية في العراق، والتي بدأت بالحرب العراقية – الإيرانية ثم غزو الكويت، فالحصار، ثم الغزو الأميركي، ثم الاضطرابات في الداخل العراقي، فظهور “الدولة الإسلامية”، وتباشير عودة الأميركان. هذه السلسلة إنما هي حرب واحدة طويلة رغم تعدد أطرافها، لا تسمح للروائي بالاقتراب منها إلا بعد أن تضع أوزارها. ضمن هذا الاعتقاد هل ينبغي الانتظار مائة عام للكتابة عنها؟

على العكس، تتوالى منذ سنوات الكتابة عنها، فالرواية تهتم بالبشر في غمرة مآسيهم الإنسانية. هل ثمة مأساة أكبر من الحرب التي إن لم يفقد فيها الإنسان نفسه، يخسر أحبابه، وجناية حياته؟

قد نعذر جين أوستن التي كتبت رواياتها عن الريف الإنجليزي. بوسع الريف في ذلك الوقت الابتعاد عن المعارك، لكن الكاتب في بلاد العرب لا يمكن له تجاهل الطائرات الهادرة فوق رأسه، ولا أصوات المدافع، ولا مواكب الشهداء، وما يصيب الحياة اليومية من أعطاب، من انقطاع الكهرباء والماء، إلى ارتفاع الأسعار الجنوني.

الروائي اليوم، شاهد على حروب يجري العمل على تزويرها، وله العذر في عدم انتظار نتائجها، إذ لا الانتصار ولا الهزيمة يحددان موقفه. المأساة التي يعيشها شعبه هي العامل في تحديده. المحنة الكبرى، عندما تتقاتل جماعاته وأفراده، وفي الصميم هو شعب واحد ينتحر، طوائفه أسيرة فتنة مدبرة عمياء وضارية.

نهايات الحروب، لا تقرر المجرم من البريء، ولا الضحية من القاتل. الرواية تسمي الأمور بأسمائها.. والمزورون قادمون، طلائعهم هلّت.