بات مستهلكاً الحديث عن الثقافة والمثقف. كلاهما لا يقتصران على مجرّد تعريفات، بل يتعدّاهما إلى العمل على الأرض، فالمصطلحات لا تحميهما مهما بلغت دعاواها العلمية، المحك العسير أسقط المثقف، أما الثقافة فقد باتت ذرائع تقنية.

في الانتقال من هذه الدائرة المخادعة، وإن كانت آمنة، إلى الواقع غير الآمن، يصبح التعرّض لهما ممضاً، إذ مثلما هناك صحافة صفراء هناك ثقافة صفراء، تبرر الردة على أنها استبصار يقتحم المستقبل، وتسوّغ الجرائم بجدل لا يجرح، لكنه يقتل بكل فظاظة. المثقف المجرّد من السلاح، والمدجج بالمنطق، بات القاتل الأكثر إقداماً وإقناعاً وكذباً.

السنوات الأخيرة، شهدت انكشافاً للمثقفين الذين حدّدت خياراتهم انحيازاتهم الطائفية وتطلعاتهم المصلحية. بينما الثقافة المحشورة في الحيّز المهمل، تُستخدم كأداة لتسويغ ما لا يسوّغ. هذا زمان يضاف لأزمنة أخرى سبقته، أفقدت المثقف الهالة التي أحاط نفسه بها، لم يعد في الطليعة، ولا يتميز عن غيره، فأفعاله لا تطابق أقواله، والكلام عن خيانته أكثر من الحديث عن أمانته ووفائه لأفكاره، وما يدعو إليه صار محلاً للشكوك.

“لم يشهد هذا النوع من المثقفين انحطاطاً أكثر من هذا الربيع الآفل”

فهو لم يعد كما هو شائع من حملة المبادئ والقيم الأخلاقية، بل إنه مجرّد مروّج شعارات، تستأجره السلطة لتضليل شعبها، وتبرير دعاواها. ومن طرفه، يعرض خدماته على جهات مشبوهة ومعروفة بتوجّهاتها المتحرّرة من الانتماءات الوطنية.

والمسوّغات متوافرة، والأسوأ أن المسارعين إليها والمتكالبين عليها أكثر من أن يحصوا، لينطقوا بما يراد منهم وأكثر، ودائماً على استعداد للقفز من مركبهم إن أوشك على الإفلاس، أو مركب السلطة إن شارف على الغرق، ولن تنقصه الحجج التي تأخذه من طرف إلى طرف مضاد.

عموماً كل شيء يحتمل الوجهين. ليس هناك من هو أكثر مراساً من المثقف في إثبات الشيء وعكسه. فهو يبرر الخيانة على أنها الطريق الصحيح إلى التقدّم، أما الخديعة فعلى أنها دبلوماسية بارعة، والغدر على أنه فعل الحقيقة التي لا مهرب منها.

لم يشهد هذا النوع من المثقفين انحطاطاً أكثر من هذا الربيع الآفل الذي كان محل رجاء كبير في انطلاق الوعي إلى العمل. انحدر المثقف في هذه الأزمة الشاملة إلى درك آخر، لم يبلغه من قبل، فبالإضافة إلى تزويره للحقائق وترويجه للأكاذيب، لم يتأخر عن لعب دور المخبر والواشي والمليشياوي والمحرّض على القتل. إذا كان لهؤلاء ما يتميزون به، فتميزهم يتمثل بأنه لا أخلاق تردعهم، وعندما يُعمِلون أذهانهم، تتعطل ضمائرهم، إن لم تمت. إن الضمائر عمرها قصير ولا يمتد بها الأجل إلى أكثر من زمن اللغو بها.

هؤلاء كانوا من الأبناء المخلصين للأيديولوجيات الأكثر انغلاقاً وإحكاماً وموثوقية، تلك التي لا يأتيها الباطل من أمامها ولا من خلفها، لم يكن هناك أشد منها فجوراً وإسفافاً بتصنيفاتها النهائية، ازدهرت في أزمنة الانحطاط، واستعادت حظوتها مع تآكل الربيع العربي.