الأكثر تِرداداً حول المؤامرة، أنّها نظرية تفسِّر كلّ شيء، في حال توَفّرت أسبابُها أو لم تتوفر. لسنا بحاجة إلى علماء ولا سياسيين أو محلّلين استراتيجيين لتفسير ما أشكل أو غمض علينا، بمجرّد أن نعزوَ هذه الإشكالات أو الغوامض إليها، فهي كفيلةٌ بتفكيك أيّ لغز، والحُجج موجودة دائماً، كفيلة بتبريرها.

يُعتقد أنّ الاستئناس بالمؤامرة، يُنسَب إلى القرن الماضي، بعد نشوء القوّتين العُظميَين، في الحرب الباردة التي بدأت معها حرب الجواسيس، وكأنّ التجسُّس لم يكن موجوداً ولا ناشطاً من قبل، وإنّما صناعة شيوعية ورأسمالية، تولّت إدارتها أجهزة المخابرات. تُعقد الاتفاقيات والتوافقات والتحالفات في دهاليز كواليس السياسة، وتدبّر انقلابات بلدان العالم الثالث في أقبية وزارات الدفاع، وتندلع الحروب الصامتة تحت الأرض بلا دبابات وطائرات، حروب سلاحها المؤامرات.

هذه الحروب لم تتوقف، أو تأخذ نفساً أو استراحة إلّا بعد انهيار عقد الاشتراكيات. لكنْ إلى حين، إذ استُؤنفت بعدها بتُؤَدةٍ وعلى مهَل، كانت مرحلة إعادة حسابات. سرعان ما استعادت نشاطَها بكثافةٍ لافتةٍ مع بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وبلغَ التنظير لها ذروتَه، مع صعود الإرهاب بضربة نيويورك الحادي عشَر من أيلول/ سبتمبر. كانت مجالاً خصباً لانتعاش فكرة الإرهاب الإسلامي، شُنّت تحت وطأة ادّعائه حروب العراق وأفغانستان، ما أدّى إلى خراب بلدين وتدميرهما.

من كورونا إلى الحرب الأوكرانية لا راحة من المؤامرات

بعدئذٍ، هبط الربيع العربي، وكان حسب أنظمة المنطقة؛ مؤامرة أميركية، إسلامية، إرهابية، وذلك لتحويل الأنظار عن الدكتاتوريات، ما حوّله إلى ربيع كارثي. بينما حافظ الإرهاب على ازدهاره الخفي، بعدما توطّن في خلايا تظهر وتختفي، حسب الحاجة، فالمؤامرة تشعّبت إلى تآمر متعدّد المنافع. حالياً، تجلّت تنويعاتُها في الحرب الأوكرانية، والتنظير إليها على أنّها مؤامرة أميركية للإيقاع بروسيا، أو مؤامرة أميركية روسية مشتركة مقابل تقديم خدمات متبادلة، أو صينية، وربّما يهودية… فالمؤامرة تتّسع للتفسيرات كافّة، وتستوعب حتّى أكثرها غرابةً ولا معقوليةً، كما تستند إلى أسرار خفيّة لا يصعب شرحُها ما دام من بنودها الاقتصاد والهيمنة على العالم.

هذا مع أنّ العقل ينفي وجودها، ويعتقد أنّها من الخرافات التي يرتاح إليها العوام وتستثمر في خطط غريبة وذكية؛ فجشع أثرياء العالم الخمسة، وربما العشرة الذين يسيطرون على تكنولوجيات العالم والمستقبل معاً، وما يُقال عن سعيهم لتخفيض النسل الأسود، واصطفاء العرق الأبيض، والتخلّص من الأعراق الأخرى كالآسيوية، طبعاً بالتدريج. فكان وباء كورونا صالحاً لتخفيض عدد السكان بدءاً بكبار السن، واعتُبر من غضب الربّ، لا من خفافيشِ مُختبرات الصين، ولا أبحاث الجيش الأميركي السرّية، عموماً كان مؤامرة واستغلّته شركات الأدوية من أجل المزيد من الأرباح، فانتشر الطلب على اللقاحات، مع انتشار الذعر في العالم، فلا تنقّلات وحبس في البيوت وارتداء كمّامات واستخدام سوائل التعقيم.

جرى الاعتقاد أنّنا في هذا القرن نشهد التجلّي الكامل للمؤامرة، وأنّ العالم يتحرّك على وقعها من مؤامرة إلى أُخرى، فلم نتخلّص من كورونا إلا وبدأت حرب أوكرانيا، وماذا بعد؟ ربّما حربُ النجوم، هذا لِئلّا نقعدَ خالِي الوفاض بلا مؤامرة.

من حُسن الظنّ أنّ المؤامرة قديمة قدم الإنسان، فمنذ وعى الإنسان وجودَه في قبيلة، باتتِ المؤامرة رهينة إزاحة رئيس القبيلة. فإذا انتقلنا من الماضي إلى ما يتجاوَزها قليلاً نحو المجتمعات المتديّنة، أليس في تنبُّؤات يوم القيامة، نوع من المؤامرة التي يقصد بها تخويف الأحياء بيوم قريب يموتون ويُحاسَبون على خطاياهم، ولو كان من أجل الصلاح! لكن جنى أصحابُه الكثير من عائدات صكوك الغفران. كذلك معاداة السامية، ولا ننسى الكم الهائل من المؤامرات التي كانت وراء الاغتيالات، من يوليوس قيصر إلى جون كينيدي، ولن نستثني مارلين مونرو.

المؤامرة قديمة، وازدهارها الراهن خلقتهُ وسائل التواصل

المؤامرة ليست حديثة الولادة، وما ازدهارها حالياً إلا بسبب الإنترنت، وتتجلّى بسرعة انتشارها في وسائل التواصل الاجتماعي. أصبح بوسع أيّ شخص أن يبتكرَ أو يهجسَ بمؤامرة لتجدَ طريقها إلى فيسبوك أو تويتر، هناك من يقرأها، ويعيد نشرها مع المبالغة. طالما هناك جمهور مهيَّأٌ لاستقبالها وتصديقها أو عدم تصديقها، لكنْ يُسهم بترويجها، ولو كان للترويح عن النفس، وهكذا حظيت نظرية المؤامرة بعهدٍ ذهبي، أذكى لهيبَ الفكر التآمري، بمشاركة الجميع، فتحرّرت من اختصاص الموسوسين بها. إذ لم تعُدِ الاتهامات حبيسة نشرات الأخبار، بل يُطلقُها رجل الشارع، لتندفع أسرع من الصاروخ وتجوبَ العالم عدّة مرات، لتعودَ إلى رجل الشارع بحلّة جديدة.

كما أسهمت الحكومات بتنزيلها إلى الشارع، عند كلّ ضائقة أو أزمة، لتحملَ العبء عنها، وهل هناك أفضل من المؤامرة لتفسير ازمة الخبز والوقود والغلاء والكهرباء والنفايات والمصارف وهبوط العملة المحَلية… سوى أنها مؤامرة سببها العقوبات الدولية الجائرة أو الحصار أو… المهمّ أنها تغفل أثرياء الحرب واللصوص والمجرمين، كذلك رعاية الدولة لإلهاء الشعب عن التفكير، مجرّد التفكير بالخلاص منها.