مثّل الارتباط بالسلطة قفزة نوعية للثقافة الانتهازية، أثمرت لأصحابها بعض النفوذ، وبعض الرفاهية، والشهرة السيئة. قفزة تستدعي التساؤل، فالمعروف أن علاقة المثقفين بالنفوذ تكاد تكون معدومة، فلا سلطة إلا لأجهزة الأمن، أما الاستقواء بها، فلا يزيد عن العمالة بالوشاية، وإذا كانت قد منحتهم مكانة متميزة في وسائل الإعلام، فلا تزيد عن مكانة مروّج الأكاذيب. أما علاقتها بالمال فواهية، مهما كانت حصصهم فلا تتعدّى الفتات، وهذا الفتات خاضع للتنازع عليه. وإذا أعملوا عقولهم، فللبحث عما يرضي نظاماً فاسداً، ويتركز في تقديم الخدمات له، من الدفاع عنه إلى تجميل صورته.

استمد المثقف نفوذه من الثقافة سلاحه الوحيد، فلم يحتل المال الأولوية، ليس لاعتياده على عدم توافره، وضعف إحساسه به، وإنما للثقافة ضريبة لا تستقيم من دونها، إنها التمسّك بالقيم الكبرى، وعدم التنازل عنها. وإذا كان بعض المثقفين تضوّروا جوعاً، فلأن القيم لا تطعم لحماً ولا خبزاً. ونظروا إلى القليل من الرفاهية على أنها مفسدة؛ قدْرٌ صغير منها كان يزلزل كيانهم. يظنّون أن نضالهم ستشوبه الميوعة. وإذا حظوا ببعض الراحة، لا يسامحون أنفسهم، لا يقبلون عذراً على تراخيهم.

كيف التقى مثقفون أُجراء مع مثقفين ذوي ماضٍ يساري علماني في الوقوف جبهة واحدة إلى جانب القمع؟ من العبث القول إنه تلاقي أيديولوجيات أو أفكار أو أهداف، لا شيء يجمع بينهم، فلماذا تحصّنوا في الخندق نفسه؟ فإذا كان الانتهازيون ينشدون المنفعة، لكن ما هي أسباب نقيضهم من المثقفين؟

يتعدّد تفسير هذا اللغز، هناك من يعزوه إلى أسباب أيديولوجية بحتة، فالمظاهرات متأسلمة والدليل الأشهر خروجها من المساجد. الأيديولوجيات اليسارية لا تتسامح مع الأديان، ولو كان فيها فناء معتنقيها دفاعاً عن الحرية.

وفي قول آخر، نظرهم إلى الثورة من منظار طائفي، فاعتبروه حراك الأكثرية الدينية ضد الأقليات، ولن يثوروا لحسابها. فهم شيوعيون علمانيون ليبراليون ثوريون، بينما الأكثرية كتلة غامضة يجمعها التطرّف، فبالمقارنة معها، وفّر النظام للبلد الأمان الطائفي. أما من المنظار اليساري، فهم الأحق بوراثة نظام علماني، في حال سقط، يجب أن يؤول إليهم. أما دعواهم في التنكر للحراك السلمي، فتحوّله إلى حراك إرهابي. إذا كان هذا صحيحاً، فأحد أسبابه، أنهم اختاروا جانب النظام بعد صمت طويل.

في حال أردنا الأخذ بالأسباب المخفّفة، ولو كانت ضعيفة، فهو تعبهم من النضال، فقد قضوا في سجون النظام سنوات طويلة، ولم يرغبوا في العودة إليها من أجل شعب أكثريته متخلفة. فشككوا بشعارات المتظاهرين السلميين في الدعوة إلى الدولة المدنية، و”سورية موحدة”، فذهبوا إلى “الأسد أو نحرق البلد”، و”الأسد أو لا أحد”. شعارات لا تخفي الوجه البشع للاستبداد الوحشي والطغيان المطلق، لكنها آمنة.

ترى، هل تسوّغ الأيديولوجيا قضايا ماكرة تصلح لتبرير الدكتاتورية والطائفية والقمع والتعذيب والإعدامات الميدانية والتجويع والحصار والتهجير؟