حتى الآن، لم تُعتمد منهجية مضمونة في قراءة الرواية، يمكن الاطمئنان إليها، هذا ما تشكو منه لجان التحكيم، بالتالي لا يجوز إصدار أحكام نهائية على جنس أدبي مهما نضج، ما دام في طور التشكل. لكن الأدب ليس في حالة تشكل ولا تطوّر، بل في توسع وبحث، مواكبة الحياة تنحو إلى عدم استقرار الأدب، فهو لا يسبقها، بل يسعى إلى إدراك ما يعصف فيها من غليان واضطرابات وقلق ونشدان للسعادة. أما الاستقرار، مهما طال فهو موقوت، في مرحلة انتقالية لا تنتهي، إلا لتتجدد.

في الرسالة التي رفض المدير الأدبي لمنشورات أولندوف الكتاب الأول “في جانب سوان” من الرواية الضخمة “البحث عن الزمن المفقود” لمارسيل بروست، علق قائلاً: لا أفهم كيف يكتب رجل ثلاثين صفحة في وصف كيفية تقلّبه، ثم تقلّبه من جديد على فراشه، قبل أن يستطيع النوم.

لا أظن أن لدى بروست القدرة على الإتيان بمعجزة وصف تقلّب بطله على الفراش بهذا العدد من الصفحات، إلا إذا كان يكتب ما يتداعى في ذهن بطله من تداعيات وذكريات.

” الكاتب ابن زمانه، وما أضافه أصبح مادة استعمالية للأدب”

في الحقيقة، لم يستعجله المدير الأدبي وحده في الانتقال إلى الموقف التالي، بل الكثير من القراء أيضاً، فالرواية بالنسبة إليهم عبارة عن مواقف، وكل موقف يستغرق قدراً من الوقت، لا يزيد بعضها عن بضع كلمات. لم يأخذوا بالاعتبار أن موقف “ما قبل النوم”، كان في تداعياته لا في تقلّبه على الفراش. تأثير بروست امتد إلى تغيير عادات القراءة أيضاً. والمهم فعلاً، أن روايته لم تسبر عصره فقط، بل العالم الجوّاني النفسي الفردي.

لا يوجد كاتب سبق زمانه، بل يوجد كاتب استوعب ما اختلج واضطرم في الذات والواقع، ورأى ما أخفق غيره في رؤيته، واستشفّ ما يحتاجه للتعبير عنه، فلم تسعفه الأدوات المتعارف عليها.

من هنا تنبعث الرغبة الجامحة في التجربة، يعززها الإحباط والقصور والانسداد. ما يدفع الكاتب إلى إيجاد حلول لأزمة إبداعية بات يعيشها. قد تكون البداية لتكريس تيار جديد، لن يلاقي الاستحسان، لكن بعد حين سيجد صداه. وسواء اعترف به النقّاد مبكرين أو متأخرين، فالكاتب ابن زمانه، وما أضافه أصبح مادة استعمالية للأدب.

وإذا كان النقد يعتقد أن من أبرز مهماته تقييم الأدب وإرساله إلى المستقبل أو إلى النسيان، فقد يصيب ويخطئ؛ أحياناً أخطاؤه مكلفة، ولا تسامح معها، إن دلت على شيء، فعلى قصوره في التعرف على أعمال مفتاحية. ومثال سانت بوف، واحد من أكبر نقاد فرنسا في مقاله “عشر سنوات في الأدب” وتعليقه على صاحب “الكوميديا الإنسانية”: إن بلزاك سينتهي كما بدأ بمائة كتاب لن يقرأها أحد. كان خطأ فاحشاً.

ما زالت كوميديا بلزاك تُقرأ حتى الآن، ولهذا دلالة؛ إذا كان الكاتب أميناً لعصره، يجد طريقه إلى الأزمنة القادمة.

اقــرأ أيضاً