عشية الثورة الفرنسية شهدت فرنسا إقبالاً على القراءة بشكل منقطع النظير، وبالمقارنة مع جارتها البريطانية، فاقت باريس الأقل سكاناً من لندن، من ناحية حجم ما ينشر من كتب وكرّاسات أربع مرات. ينسب فضل هذا الكمّ الكبير إلى اهتمام الشعب الفرنسي بالشأن العام. كان مقبلاً على متغيرات، أخذ يستعدّ لها، ليس بنزالات الشوارع فحسب، بل وبالمعرفة أيضاً. تلك إحدى إرهاصات الثورة. أما على الأرض فعلى رأسها طبعاً، التظاهرات والشغب، ومسيرات الجوع إلى المدن الكبرى. في حين احتدمت المناقشات والاجتماعات، والتحريض الذي نال من حصانة الملكية ونظام الطبقات والكنيسة والباستيل، حتى أن مؤرخين اعترفوا بتأثير القراءة على عمال باريس، بأنهم أصبحوا عنيدين.
بينما شهد الربيع العربي تراجعاً في القراءة، لحساب “الفيسبوك” و”التويتر”، وكأن الثورات التي اعتمدت وسائل التواصل الاجتماعي في الاحتجاجات وتنظيم المظاهرات والتخطيط للاعتصامات، ستكمل مشوار الربيع على هذا النحو، غير أن كل منها ذهب إلى فصل آخر. القراءة بحدّ ذاتها ليست مطلوبة لإحراز صفة المثقف، وإنما إلى ما تخلّفه من انفتاح على المعرفة كفعل تغيير.
في كل عام، هناك من لا يفتأ يذكّرنا بأن الكتاب يعاني عسراً، يحدّ من انتشاره، كالرقابة، وهي رقابات مختلفة ومتنوعة، ومتعدّدة بتعدّد الدول العربية. تجلّت في هذا العام في “معرض الرياض”، باقتحام جناح “رياض الريس للنشر”، ومصادرة كتب الشاعر محمود درويش، ولولا أنه كان مثالاً فجاً، لما استلفت الأنظار، فالمنع بالمئات سنوياً. عدا عن أسبابه الأخرى كغلاء الكتب، وتراجع جاذبية القراءة أمام التلفزيون الذي يبتدع كل يوم برامج تشدّ إليه جمهوراً ينشد الجلوس في البيت والاستمتاع لا التفكير، وظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي يتزايد أعداد المشاركين فيها، وتستهلك ساعات طويلة من المتابعة الحثيثة يومياً. ما يؤكد أكثر مما يوحي أن الكتاب ليس إلى تراجع، بل إلى اندثار، طبقاً لما يواجهه من ضغوط سواء من السلطة أو من الوسائل المنافسة.
لم تكن هذه السلسلة الوحيدة من الضغوط التي تعرّض إليها الكتاب، ففي بدايات القرن الماضي، لمست الصحافة والمطّلعين والكثير من الأدباء، الخطر الذي واجه الكتاب تحت تأثير ظهورالسينما، وبلغ التشاؤم ببعضهم الادّعاء بأنها تسرق جمهورالمطالعة من المكتبات، وتدفعه إلى صالات السينما المظلمة لمجرّد أن خيالات سوداء تتحرّك على الشاشة، ما يعوّض عن القراءة، لاسيما بعدما أصبح للسينما قصّة وأبطال ومتفرّجون يرفّهون عن أنفسهم، ويضحكون ملء أشداقهم، ويقتفون ما يلبسه مشاهير النجوم من الممثلين والممثلات، غير أن السينما تآلفت مع الكتاب، وأصبحت الروايات والقصص المصدر الرئيسي لألعاب الفن السابع. أما الذي شكّل خطراً حقيقياً على الكتاب والسينما معاً، فهو التلفزيون الذي اقتحم البيت، وأصبح فرداً من العائلة، بتكلفة مادية محدودة، لكن تأثيره تحجّم مع الوقت، وبات حتى بعد توافر قنوات تبث الأفلام ليلاً نهاراً، لا يستغنى عن السينما ولا الكتاب.
بعد طول نضال، وصل أحياناً إلى حدّ الاستماتة في الدفاع عن الحق في القراءة، أثبت الكتاب قدرته على البقاء على قيد الحياة. أما في المنطقة العربية، فما زال يواجه أكثر من خطر، أهمّها غلاء الكتاب بالنسبة لدخل الفرد العربي، غير أن هذا المانع، تراجع أخيراً، ولو كان فيه خسارة لمتعة الكتاب الورقي، الإنترنت وفّر آلاف الكتب بالعربية، وفي جميع صنوف المعرفة، مجّاناً بلا مقابل، وتجاوز معضلة الرقابة، فالفضاء الافتراضي أثبت حتى الآن ألا موانع يستحيل تخطيها، ولا خطوط حمراء تحظر اجتياز حدود، مهما كانت صلابتها، فهي افتراضية.
لا يمكن أن تكون هناك نعمة توازي ما أسبغته التكنولوجيا الرقمية على القرّاء والكتّاب، إلا نعمة العقل الذي أنتج التكنولوجيا والأرقام والكتب، وكل ما يمكن أن يكون حقيقة أو افتراضاَ.
-
المصدر :
- المدن