بينما كان فيروس كورونا ينتشر في العالم ويتمدّد، مسجّلاً يومياً آلاف الإصابات، مُرفَقَةً باعترافات الدول بالاستعدادات الجارية لمواجهته، والتحذير من أخطاره، بدت غالبية بلدان “الشرق الأوسط” البقعة الآمنة الوحيدة في العالم كلّه، وكأنّ كورونا فيروس صيني أو أوروبي لا علاقة له بالإسلام ولا بالعرب، إلى أن ظهر في ما بعد حِرص حكومات بلداننا السعيدة على عدم الإضرار بسمعتها في مجال صحّة المواطن، وكأنَّ في نفيه شفاء منه – خصوصاً تلك الأنظمة الفاشلة التي حقّقت لشعوبها مقادير هائلة من البؤس – وأقداراً حتمية تدفع إلى اليأس من أي تغيير أو تقدُّم حتى في مجال الوقاية من الأمراض والأوبئة السارية، وأوحت ادعاءاتها البريئة عن تمكّنها من توفير عقامة كاملة من الفيروسات والجراثيم بأنواعها. فالسلطات الإيرانية كانت في حالة إنكار، في حين كان الفيروس يتفشّى في مدنها، أمّا وزارة الصحة السورية فأعلنت بمنتهى الثقة عدم تسجيل أيّة حالة إصابة بفيروس كورونا.
رجّحت معظم بلدان المنطقة مصالحها الاقتصادية والسياسية على مصلحة مواطنيها، كانت على حساب حياتهم، فلم تقم بالاحتياطات الصحية العامّة في مجال احتواء الأمراض المعدية من قبل، وحالياً في مواجهة وباء شامل، فتقاعست عن اتخاذ إجراءات روتينية كحظر السفر، والحجر الصحي، واتباع سياسات التعقيم، والحدّ من التجمّعات، وتأجيل الزيارات للمقامات الدينية المقدّسة.
” ربما سبب التكتّم هو الخلافُ حول كيفية استغلاله كقاتل صامت”
اعتمدت الصين سياسة “الإنكار” بدايةً، إلى أن انكشف الوباء، ولم يعد بالإمكان التستُّر عليه، وإن أحيلت أسبابه تلميحاً إلى الأميركان، فاتّهمت الجيش الأميركي بأنه ربما جلب فيروس “كورونا” إلى مدينة ووهان الصينية، ليشغلها بفيروس يعطّل اندفاعتها الاقتصادية، ويكلّفها من الخسائر تريليونات الدولارات. مشت إيران على الإيقاع نفسه، فادُعي أن “كورونا” مؤامرة من “الشيطان الأكبر”؛ أميركا، انطلقت على إثرها جوقة اعتبرت موتى العدوى بالفيروس شهداء، لأنهم قضوا حتفهم بسلاح بيولوجي أميركي، ما أحيا نظرية المؤامرة.
شاعت أيضاً موجة من الخرافات، فبدلاً من حظر الزيارات إلى الأماكن المقدّسة، جرى العكس تماماً؛ بترويج زيارة الأضرحة على أنها تشفي الأمراض بالجملة، ما يشمل كورونا ضمناً، بدءاً من ردّ البصر للأعمى، ومنح الكسيح القدرة على المشي… إلى الرجاءات المعروفة، كطلب الشفاعة والإنصاف وردّ الأذى. كما نشطت الدعاوى الطائفية، إلى حدّ الادعاء بأن هذا الفيروس ظاهرة شيعية تستهدف الغالبية السنية، أو حرب سنية تستهدف الشيعة، لتأجيج الصراع الطائفي.
لم يقصر تنظير المتأسلمين الديماغوجيين عن غيرهم في هذا المضمار، بتسويق تفسير مضلّل مضادّ للعلم، فحطّوا من التقدّم الذي أحرزه العالم في مجال العلوم الطبية، لتمكُّن فيروس لا يُرى بالعين المجرّدة، وإنما في المختبرات وبالمجاهر الدقيقة، جعل الغرب الكافر يرتعد هلعاً من الخوف.
يضطرّنا حُسن النية في تعليل الضعف الحكومي، إلى الأخذ بالاعتبار السياسات الصحية الهشّة المعتمدة أساساً في التعامل مع الكوارث، كذلك تضاؤل توافر الخبرة الطبية اللازمة، وانخفاض آليات المبادرة مع غياب الشفافية، وانعدام الإدارة الرشيدة للأزمات. عدا الحروب والنزاعات المسلّحة التي تعيشها المنطقة منذ عقود، ما أضعف البنى التحتية الصحية في العديد من بلدانها، ولم تعد لديها القدرة على احتواء مرض ولا مواجهته.
من جانب آخر، لا يُمكن حجب سوء النية عن الأنظمة الشمولية، خاصة عندما تكون في حالة حرب كالنظام السوري، بحيث لا يمكن تفهُّم تكتّمه على الاعتراف بالفيروس، وتعمُّد عدم التصريح عنه، ما يحيلنا إلى أن الأمور الصحية هي من اختصاص أجهزة المخابرات أيضاً، ولا يمكن الإشارة إليها، لأسباب أمنية! وربما كانت أسباب المنع، الخلاف حول كيفية استغلاله كقاتل صامت يأخذ على عاتقه مئات آلاف الضحايا، أعاقه أن الأعراض باتت معروفة؛ فالنظام الذي قصف المستشفيات والمستوصفات ولاحق براجمات الصواريخ فرق الإغاثة الطبية، وأدار أطباؤه في مستشفياته عمليات الإشراف على تعذيب وقتل المحتجزين المرضى… لن يتورّع عن ترك كورونا يعيث فساداً وقتلاً، آملاً مشاركته الفعالة في إقامة المجتمع المتجانس النظيف من أية معارضة.
ما تجهله الدول الشمولية أنه إذا كان القاتل الصامت إلى جانبهم، فللضحايا صوت، لن يهدأ إلّا عندما يعلو صوت العدالة.
-
المصدر :
- العربي الجديد