ثمة اتجاه في النقد يرى أن الرواية تختلق عوالمها، وأنها قطعت شوطاً طويلاً – بدأ منذ قرون – في ابتداع عوالم خيالية، فـ”رحلات غليفر” إلى بلدان العمالقة والأقزام، و”أليس في بلاد العجائب”، أمثلة تمدّنا في أحد جوانبها على قدرة الرواية على مغادرة العالم الواقعي نحو عوالم أكثر حرية وانطلاقاً لا تخضع لقوانين البشر، ولا للجاذبية الأرضية أحياناً.
الحجّة المعلنة أن الحياة التي تكرّر نفسها، هي التاريخ نفسه الذي لا يعفّ عن اجترار وقائعه على الرغم من تنوّع مظاهره؛ فالطغيان، ومجانين التسلّط، وإدمان الفساد، وهجمات الأوبئة، وتوطن الأمراض، وتمكّن الفقر، واستشراء الجوع، أشبه بالفصول الأربعة، التي لا تتجدّد بقدر ما تعيد نفسها، فجعبة الحياة لا تحتوي على المزيد.
بالعودة إلى الرواية، لا جديد يستحق الكتابة، فالرواية لم تعد سوى إعادة ما كُتب سابقاً، رغم الدعاية الترويجية، والدليل قوائم “أفضل الروايات” التي تختلف من جهة لأخرى، حسب ضرورة تسويق رواية صدرت حديثاً، أو من الكلاسيكيات، أعيد طباعتها.
” الرواية لم تعد سوى إعادة ما كُتب سابقاً”
ساعدت السينما التي تعاني من الواقع أكثر مما عانت منه الرواية، بعدما استهلكت موضوعاتها عشرات المرات، بالأبيض والأسود والألوان، وبالصمت والثرثرة، عن الحب والخيانة والجنس والكاوبوي والحروب… في العقود الأخيرة أفلحت في استعادة جمهورها بالسفر إلى عوالم خيالية لا صلة لها بالواقع، فارتادت عوالم غريبة في المجرّات، سوّغها الخيال العلمي، لا سيما أن البشر باتوا على صلة يومية بالتقدّم العلمي، اضطرهم إلى ملاحقة الأجيال المتسارعة للروبوتات الذكية، والهواتف الذكية، والسيارات الذكية، والساعات الذكية.
وكأن البشرية في القرون المنصرمة كانت ترزح في الغباء، والعلم أدى مهمة جليلة، ونقل البشر من العهود المتباطئة للغباء إلى عهود متسارعة من الذكاء. هذه القفزات أوقعت الإنسانية في مأزق اللهاث وراء جديد، سرعان ما يطويه الأجد. تقوم على هذه الصناعات شركات عملاقة، كرّست جهودها في ابتكار وسائل الرفاهية، وقتل الوقت الثمين، واستهلاك الفراغ الثقيل بالمتع الخفيفة، تخلّصاً من الملل السقيم؛ ما أسهم بتحويل شعوبهم الى عُمّال أرهقتهم طفرات السعادة، بينما الجزء الأكبر من ساكني الأرض لا يتمتعون برحلات الخيال إلى عوالم الإثارة، فالواقع يسحقهم، لا الفراغ.
البشرية المحظوظة التي في أسعد حال، مدينة للعباقرة الذين يصنعون عوالم من كلمات وصور. المؤسف، أنهم يعملون لدى أقوياء العالم، ويفكرون في حدود مختبراتهم، بينما الأقوياء يكرّرون مآثر من سبقوهم منذ قرون، فالدكتاتوريات تشهد إقبالاً عليها من روسيا وكوريا الشمالية، وتراود دولاً أصابها الملل من الديمقراطية، وفي عالمنا العربي كثيرون من أمثالهم ينتظرون الوقت المناسب للانقضاض على دولهم الرخوة.
إذا كانت العلّة في التاريخ الذي قدّم أمثلة فذة على الطغيان الجميل، فلماذا لا يعيد نفسه؟ فالعبقرية المختصة بتوليد الذكاء الصناعي، لم تفلح في تخليص البشرية من تطلعاتها الشريرة، فالغباء هو سيّد العالم، ودائماً بلا حدود.
-
المصدر :
- العربي الجديد