يرافق الغرور عملية الكتابة، ولا غرابة. الأدباء بحاجة إلى معنويات مرتفعة. ولأنهم يفتقدون إلى من يتولّى هذه المهمّة، يتولّونها بأنفسهم. إضفاء الكاتب الأهمية على نفسه يتأتّى من شعوره بأنه يخلق عوالم وشخصيات مما يشابه العدم، وحتى في حال اعترافه بأنه استلّها من الواقع، لكنه بإدخالها في معمله، أعاد خلقها ثانية مع إضفاء التعديلات، سواء كان بتحسينها أو تشويهها، ما يعادل الخلق الأول، مع توخّي الإتقان وتجنّب العشوائية.
وفي نكتة شائعة دلالة توازي عمل الكاتب، أن رجلاً قصد خيّاطاً شهيراً، وطلب منه خياطة بنطال له. بعدما أخذ قياساته، وعده الخياط بتسليمه البنطال بعد أسبوع، لكن أعقبه التأجيل تلو التأجيل. ففرغ صبر الرجل وقال حانقاً للخياط، إن الله خلق العالم في سبعة أيام، وها قد مضى أكثر من شهرَين، ولم تُنجز وعدك، فانتتر الخياط وقال له غاضباً: لكن يا سيدي انظر إلى العالم، ثم انظر إلى بنطلوناتي، في إشارة تدحض دعوى الرجل، فالعالم صُنع كيفما اتفق، ويمتلئ بالمآسي والكوارث، لا عدالة أو مساواة، بينما بنطلوناته تخلو من العيوب.
” الكاتب أحياناً بحاجة إلى الكثير من المشاعر المخادعة “
لا كتابة من دون غرور، فالكاتب في تحديد هدفه نحو عالم يريد الكتابة عنه، لن يكون الاستحواذ عليه بالتواضع، ربما رافقت تطلّعاته قدراً قد لا يكون محموداً من الهيمنة وتضخّم الذات.
غالباً لا يرغب الكاتب في الشعور بالصغار إزاء عالم ينحو إلى اقتحامه، والسيطرة عليه، والتلاعب فيه، لكن كلما توغّل فيه يدرك تضاؤل حجم سلطته، هذا إذا لم يسحقه العالم الذي ولجه، فالمضيّ في أزقّته وجنونه، ومخالطة مخلوقاته التي تتمرّد عليه، ما يجعله يدرك أن هذا العالم الذي اختلقه كأنموذج مصغّر، أكبر منه، وسوف يكون سعيداً إذا استطاع التحرّك فيه، والإمساك بخيوطه، والتحكّم بمصائر أُوكلت إليه، ولو أنه استولى عليها، وإذا كان يجهد، ففي اكتشافها، ومسؤولياته باتت إزاء بشر باتوا من لحم ودم.
الكاتب أحياناً بحاجة إلى تلك المشاعر المخادعة، قد تشيع في داخله الثقة بأنه لا يمارس عملاً هامشياً، ففي تشكيل عالم من كلمات، يبث الروح فيه بالكتابة، ليحيا بالقراءة على نطاق أوسع، بين بشر لا يعرفهم. ما يشعره بأن القارئ لا يقرأه فقط، بقدر ما يبعث الحياة فيه أيضاً، بانتقال ما كتبه من الركود بين دفّتي كتاب إلى التفاعل مع شخص آخر، في بيئة مختلفة، ومهما كانت الأواصر المفترضة متوافرة، لكنه إنسان يجهله.
وإذا كان الإعلان عن هذه المشاعر يُعتبر من تنفجات الكُتّاب، لكنها تحمل قدراً من الحقيقة البسيطة عن اختلاق مأثرة، مهما حاول تفخيمها، فهي متواضعة، لكنها تبقى مأثرة، وإن كان لا يكتب من فراغ، ومرجعياته مبذولة بكثافة في الحياة.
يدفع الغرور الكاتب لاجتراح إنجازات ذات قيمة في منظوره، لكنها لا تكتسب جدواها، ولا أهميتها، إلا باعتراف الآخرين بها؛ إنهم القراء.
-
المصدر :
- العربي الجديد