قبل سنوات قليلة، بدا وكأن آباراً للرواية، وليس النفط، اكتُشفت في بُلداننا، كانت قاحلة من قبل، وكما يبدو لن تنضب. إنّها في عزّ فورانها. ظهرت الرواية فجأة بِحلّة جديدة مُغايرة لِمَا كانت عليه، لم تعُد مخصّصة للتسلية وملء أوقات الفراغ، عادت تُزاحم التلفزيون العصيَّ على المنافسة. باتت على قدر كبير من الأهمية، للكثيرين من الذين يتعاطون الصحافة والشعر والسياسة والتاريخ والفلسفة والفنون والعلوم… كتبوا الرواية، وجدوا فيها ما يُعبّر عمّا ضاق عليهم، وما يجُول في داخلهم، كما ظهرت مواهب كانت مُتوارية، وغدتِ الرواية مجالاً يُتيح للكثيرين مُتنفّساً لآرائهم في الكتابة ليس بشكل مباشر، وإنما بأسلوب أدبي على نسق عصري درامي مُتحرِّر، قادر على اختزان عوالم متنوِّعة، أتاح لهم النظر إلى الحياة واستعراضها من زوايا مُتعدِّدة تضجّ بمعانٍ ثرَّة، مُختلفة ومتناقضة، سواء أُشيد بها، أو كانت مدعاةً للحِيرة.

طاولت كلّ شيء؛ الطموحات الخيّرة والشريرة، أو الهوس بالتقليد، أو مديح رغبات الجسد، وتسخيف التقليعات الحديثة، وربما الالتحاق بها، ونُشدان التغيير بأيّ ثمن، والتحذير من فناء العالم، واستعراض مناحي الانحطاط الأخلاقي والفساد في الدولة. وعزّزت تصوُّرات إباحية على أنّها حلٌّ للتزمُّت والكآبة والحرمان، على الضدّ من الانطلاق في فضاءات الروح ومباهج الغرام، ومعاناة آلام الفراق والعزلة والوحدة واليأس، وتثمين الصداقة، والموت تلك الأنشودة الأكثر شيوعاً، فالبشر يتشاركون فيها من دون استثناء، ليس أن الرواية تطمح إلى إيجاد حلّ لها، وإنما كقصة تراجيدية غامضة، تفرض خاتمة مهمّا تأخّرت، فهي قادمة، عسى يزيحون عنها ما يُحيط بها من أوهام، أو مجهولية مُطلقة.

ليس الموت فقط، لا يجد حلّاً له، وإنّما تخبُّط الإنسان في مُجتمع لا يأبه به، ويرمي به في فراغٍ تنخر به مشاعر العبث، فيضحي فريسة للأزمات النفسية، وللسقوط الأخلاقي في أوطان تُعاني من الدكتاتورية والقمع والحرب، وافتقاد ضرورات العيش إلى حدودِ الجوع. والسعي إلى الهجرة، لا يعني أنّ البلدان الأُخرى لا تشكو من شيء… حتى البلدان الديمقراطية المُطمئنّة، كثيراً ما صدمنا هذا العنوان المتكرّر والرئيسي عن اعتقادهم أنهم يعيشون في عالم على حافة الهاوية.

التجريب العشوائي ظاهرة شبابية ناتجة عن القراءة السهلة

ليستِ الرواية علاجاً، وربّما كانت مرضاً، أو التعبير عن مرض، إذ ليس غير الأدب والفنّ ما يُعبّر عن المأزق الإنساني، كما يُمكن أن تكون الكتابة لمجرّد الكتابة عن أيّ شيء. ليس في هذا مبالغة ولا تعنُّت، فالرواية على علاقة بكلِّ ما سبق، ولا يُشترط أن تكون علاقتُها وثيقة، غالباً واهية، أشبه ما تكون بتفريغ احتقان. في الوقت نفسه لا يُمكن إنكارها، ولا يُمكن عزلها عن حياة مضطربة لا تستقرّ على حال من فرط المُتغيّرات وتسارُع التقدُّم التكنولوجي الذي لم يعُد من المُمكن مجاراتُه، بقدر الإحساس بالتخلّف عنه يزداد من وقت لآخر.

ولا غرابة في أنها باتت في جوهرها تهمُّ المُتشائمين أكثر من المتفائلين، الذين لا يحتاجونها، فهم ينظرون إلى الحياة بتفاؤل يقرأون الروايات ويُشاهدون الأفلام، ويلهثون وراء عالم يزداد إثارة، كي لا يفوتهم، أو الشماتة بعالَم مُحبط كي يشعروا بتميُّزهم عنه، يُساعدهم على هذه المشاعر المتفوِّقة الانغماس، ولو كان على شاشة أو على الورق، طالما أنهم يعيشون حياتهم راضين بها، فلماذا يكتبون عنها، ما دام أنهم يتمتّعون بها، ويسخرون منها في وسائل التواصل.

عموماً الأبواب مفتوحة للرواية، يحضُّ عليها ما أصبحت تظفر به من حوافز، لكن رغم هذا الدفق الروائي المُشجّع على الكتابة، تُعاني الرواية في أنّها تمرُّ بما يُمكن أن يُدعَى بـ”الزمن الضائع”، هذا الذي يُفقدنا فرصة تأسيس ولادة ثانية، تلك التي بدأها نجيب محفوظ وحنّا مينه والكثير من الروائيّين العرب، إذ بها تقفز إلى التجريب العشوائي، على أمل أن تكون مرحلة تُشكّل انعطافاً في الرواية العربية، توطئة للالتحاق بالرواية العالمية من هذا الباب.

هذه الظاهرة، وهي شبابيّة في شكلها الأوسع، نتاج القراءة السهلة والمسلسلات التلفزيونية، و”نتفليكس”، والأفلام الأميركية، وأيضاً المقالات النقدية التي تتطرّق إلى الروايات على أنّها ألغاز، تستمدُّ قيمتها من الغموض. ولا ننسى ما تجود به قرائح مواقع الأدب، نحو توطيد التعبير وانفلاته من دون حامل له، أو ما يستدعيه. إن تطوّر الرواية لا يحدُث بفرض الأشكال عليها، لأنّ الرواية هي الحياة، تُجاري التحوّلات التي تجري فيها، فتُضيف إليها، ولا تنسفها، وما تأخذه منها، يفتح ثغرة تُطلّ منها آلاف الروايات.

لا ديكتاتورية في الأدب، والرواية لا تُجامِل الأمزجة الرخوة لقرّاء نافدي الصبر، ولا تُفرض على الكاتب والقارئ. تتميّز الرواية بتنوّعها المُذهِل على الرغم من التيارات الكُبرى التي لا تتحكّم بها، بقدر ما تشقُّ لها السُّبل، تقف عقبةً، لكن مهما حاول الروائي الخروج عن الأنماط المعروفة، فسوف تحتويه، لهذا يبدو الخلاص منها مستحيلاً، وإذا كُنّا نبالغ، فلأنه ليس سهلاً، دونما دواعٍ حقيقية، ليس عن هوىً ولا مزاج حانق، ولا طموح أجوف. إنه ما تستدعيه الحياة عندما تقصر الكتابة عنها، عندئذ يُحرِز التجريب نتائج تجعل الأدب يتقدّم، بقدر ما يترسّخ، ولا يكون جزءاً من هذا العابر الثقيل في الرواية.