أميركا ليست بلد المهاجرين الباحثين عن الثروة فقط، بل أيضاً بلد اللاجئين إليها هرباً من النزاعات الدينية، والباحثين عن الأمان من عسف السلطات في العالم القديم. آوت أميركا الملايين من مختلف المذاهب والأديان المضطهدين، والناجين من المجازر، والهاربين من الحروب وضيق العيش. شهدت بلاد الشام الهجرة الأكبر إلى أميركا في الحرب العالمية الأولى، وكانت سنوات مجاعة وقحط وتجنيد إجباري، دعيت بأيام “السفر برلك”.
آباء أميركا المؤسسون أعلوا من قيمة الحرية، حرية الرأي والمعتقد. اعتقدوا أنهم يبنون مجتمعاً خيّراً ومثالياً، بالمقارنة مع أوروبا بلاد الثورات والدماء والاضطهاد الديني. ولم يكن عبثاً وصف توماس جفرسون أميركا بأنها “أمة بريئة في عالم شرير”. وكان فيه تجاهل للقضاء على سكان البلاد الأصليين من “الهنود الحمر”، والتمييز العنصري ضد السود طوال قرون من الاستعباد والسخرة. عموماً الأمم ليست بريئة إلا لأنها تزرع في ادعاءاتها يقين براءتها.

بعد طرد البريطانيين والحرب الأهلية الضروس بين الشمال والجنوب. ارتُكبت خلالها جميع الجرائم الوحشية، التفتت إلى إعادة صياغة ذاتها واستكمال بناء ديمقراطيتها، وتكريس الحريّات كأمر لا يجوز التنازل عنه. أكدت عليه في نهاية الحرب العالمية الأولى.

” واصلت محاولاتها المخفقة في ادعائها تصدير الحرية”

بعد نحو قرن على تعهداتها، ما الذي قدّمته أميركا للعالم؟ المتفق عليه أنها أغرقت العالم في الحروب، وإن كانت بعد الحرب العالمية الثانية -كخطوة مبدئية لإنهاء الصراعات- عملت على تبريد الحرب المنتظرة في أوروبا المجزأة إلى كتلتين شرقية وغربية، فكانت الحرب الباردة، وهو قرار عقلاني، لم يشمل العالم كله، كان للعالم المتقدّم فقط. بينما تدخّلت في الكثير من البلدان بذريعة منع المد الشيوعي فقتلت مئات الآلاف من الوطنيين.

هل هي أمة ذات رسالة، حسب دعاوى سياسييها، أم أنها أمة تختلق رسالة لها؟ المفكر السياسي الفرنسي ألكسي دي توكفيل الشديد الإعجاب بالديمقراطية الأميركية، لم يبرّئهم، بل وشكك بطهرانيتهم: “ثمة اعتقاد طائش لدى الأميركيين هو أن الله اختارهم أداة لإنقاذ العالم” إثر سقوط الاتحاد السوفييتي؛ كانت الفرصة سانحة أمام أميركا لوضع حد للدول الشمولية. لكنها واصلت محاولاتها المخفقة في ادعائها تصدير الحرية.

اليوم ثمة ضلال يعمّ العالم، حول مفهوم عظمة الدول وربطه بالإمبراطورية. إن ما صنع عظمة أميركا ليس قوة آلتها العسكرية، بل في ما قدمته هذه الأمة في مجالات العلم والفن والأدب. أما في السياسة فما طمحت إلى فعله أخفقت في تحقيقه، لم تفتقد إلى النوايا الطيبة، لكن الوسائل كانت جشعة.

في السنوات المضطربة الأخيرة، أصبح “الشرق الأوسط” محل نزاع بين قوى إقليمية ودولية صاعدة، تنحو إلى استعادة امبراطوريات كانت لها في التاريخ القريب أو البعيد، على حساب بلد يتمزّق، وشعب يُقتل، وإذا كان سياسيو هذه البلدان يشقون طريقهم إلى الإمبراطورية وسط الضحايا، فطموحاتهم ستحرز لهم مكاناً في دليل المجرمين.