“كلما كان المرء واعياً بتحيّزه السياسي، حظي بفرصة أكبر للتصرّف سياسياً دون التضحية بنزاهته الجمالية والفكرية… أكثر ما رغبت فيه طوال السنوات العشر الماضية هو أن أجعل من الكتابة السياسية فناً”.
الكلمات لجورج أورويل، صاحب الروايتين الشهيرتين “1984” و”مزرعة الحيوانات” اللتين كان لهما الأثر الأكبر في التنبيه إلى الدولة الشمولية والتحذير منها، في وقت كانت فيه الدولة الشمولية، الممثلة بالاتحاد السوفياتي، تكسب مواقع متقدمة في العالم، منها دول ضمتها إلى منظومتها بعد الحرب العالمية الثانية، وحركات تحرر وطنية آمنت بها على أنها تدعم نضالاتها، وأحزاب يسارية في عقر الدول الغربية، وشخصيات ثقافية مشهود بمكانتها الرفيعة.
بعد سقوط جدار برلين، أصبحت الدول الشمولية من نفايات الماضي، على الرغم من الوجود الراسخ لكوريا الشمالية، ورئيسها الشاب اللعوب، ذو الوجه الضاحك، والذي يظهر ومن حوله ضبّاط كبار يرتعدون خوفاً، وفتيات شغوفات به، من فرط تدلههن به، يعبرن بالبكاء عن هيام مقدس ميؤوس منه.
“الفن الذي لا يربطه شيء بالسياسة، هو بحد ذاته موقف سياسي يتجاهل الإنسان”
فالزعيم المحبوب دلل على حنكته بقسوة لا مثيل لها في طرائق إعدام ما اعتقد أنهم خصومه، كالقضاء عليهم في زريبة كلاب تمزقهم إرباً، أو قصف المشتبه في إخلاصه بالمدفع.
حال الدولة الشمولية في هذا الزمان مهزلة وتهريج، لكن لا ينبغي التفاؤل كثيراً، ما زال هذا النموذج مغرياً للقادة المجانين، شهدنا نهاية بعضهم خلال “الربيع العربي”، أبرزهم القذافي، بعد حكم استمر أربعة عقود، وما زال بعضهم حياً، جهدهم منصرف إلى استعادة دولتهم الشمولية التي عبثت بها أقدار الربيع المتقلّب.
لا توجد رواية تخلو من التحيّز السياسي. السياسة بمعنى العمل على حياة حرة في دولة القانون، حيث الإنسان يتمتّع بحرية الرأي والتعبير والكرامة والإبداع، والحق في الحب…. حياة إنسانية مضادة للاضطهاد. الرواية أيضاً مضادة للخنوع، فهي ليست تهويمات. إنها الجنس الأدبي اللصيق بالحياة والإنسان، تشغلها القضايا الكبيرة، ولا تهمل الصغيرة، كل ما يعني البشر، يعنيها، والأولوية للبشر الضعفاء.
الروايات الكبرى في التاريخ أخذت أهميتها من جانبها السياسي. ومثلما السياسة تتوجه نحو الناس، كذلك الرواية، إذ تنحو كما السياسة إلى التأثير في العالم بدفعه باتجاه يواكب تطلعاتهم، وقد تسبقها. الرواية دليل، وأحياناً تنبؤ، وقد تسعى الرواية إلى إحداث متغيرات، هي عاجزة عنها، تدرك أن طموحاتها الكبرى هي دفع البشر إلى تغيير نظرتهم نحو الحياة والمجتمع، وإعادة النظر في الأفكار السائدة والمستقرة، والدفع نحو التأمل والتفكير.
الرواية تساؤل دائم، إنها السياسة من خلال الفن، لذلك تحاول استيعابها وإعادة إنتاجها على نحو يستطيع الناس فيه التعرف إلى نوازعهم الكامنة، إذ إن الحرية شأن مشاع بين البشر جميعاً، وما هو ضد الرواية خلوّها من الحس الإنساني الرافض لمجابهة الحقيقة.
وليس عبثاً الرأي القائل إن الفن الذي لا يربطه شيء بالسياسة، هو بحد ذاته موقف سياسي يتجاهل الإنسان.
-
المصدر :
- العربي الجديد