يُحيل بعض نقاد الأدب روايات جورج أورويل إلى الأدب السياسي، خصوصاً رواياته الأكثر شهرة، “مزرعة الحيوانات” و”1984″، وكأن للسياسة أدبها الخاص، تأسيساً على أن هذا الأدب ينتقد عسف الدولة الشمولية، والديكتاتوريات، والحروب، والعلاقة بين المجتمع والسلطة… أي كل ما له علاقة بالسياسة. أورويل نفسه، تنبه لهذا الأمر، وحسب قوله كان ينشد أن يجعل من الكتابة السياسية فناً.
إذا أخذنا بهذا التقسيم، وفصلنا أدب الحياة عن أدب السياسة، بمعنى أن هناك روايات تستقي مادتها من الحياة، وأخرى من السياسة، وتسعى الرواية إلى التوفيق بينهما، بإدخال السياسة إلى محراب الأدب تحت شعار الفن، فسوف تواجهنا صعوبات، كأننا نفصل الماء عن الماء أَصلاً، إذ من العبث التفريق بينهما؛ السياسة محور الأدب، الظاهر والباطن.
لعنة الأيديولوجيا أساءت إلى السياسة، علقت بالأدب طوال ما يقارب القرن، وما زالت آثارها واضحةً على ما يكتب، وأَصبح وصف روايةٍ بها يستدعي إخراجها من الأدب المبارك بالفن. في القرن الماضي، ازدهرت الأيديولوجيا، واحتلت مكانةً مرموقةً في عالم الأدب والالتزام، وبات من الطبيعي أَن يسعى الأديب إلى الالتحاق بإحدى الأيديولوجيات المتعارف عليها، القومية أو الاشتراكية أو الشيوعية، وفي فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، النازية والفاشية. كانت الهادي إلى الطريق الآمن في أَنظمة الحرب الباردة، والأَدعى إلى الاطمئنان لموقف الكاتب من قضايا عصره. كانت التقدمية مطلوبةً، لاحتوائها على سلسلة اجتهادات جاهزة بكل ما يخص الموقف من القضايا كلها التي تهم العالم الثالث.
بعد تساقط الاشتراكيات وانفراط الاتحاد السوفييتي، شهد العالم العربي انتفاضةً أدبية، بعد استرخاءٍ طال طويلاً إلى أدبٍ، كانت مهماته مدرجةً بوضوح في الانتصار للطبقات الكادحة. ولا يُعتقد أن الكادحين خسروا بتخلي الأدب عنهم، الحقيقة أنها أطلقت سراحهم من تلطّي الأيديولوجيا خلفهم. الردة المعاكسة كانت من التشدّد بحيث لفظت من قاموسها أية إشارة إلى السياسة، إلا بداعي التهكم والتحقير، واقتصرت روايات الحداثة على الجنس العابث بلا حدود ولا قيودٍ، والغراميات على أنها فهلويات طريفة، وعلى الشهوات الفانتازية المستغربة، والكثير من الهذيانات، مما يساعد على الانتقالات في الأمكنة وتغير المشاعر، وعدم الالتفات إلى بناء الشخصيات، أو منطق السرد. وكان من الطبيعي نفور هذه الروايات من اللمحات الإنسانية، التي كان الأدب الهادف يتشدق بها، لئلا تقود الكاتب إِلى السياسة، كما تخلو من الحرب والفجائع، ونظيفة من الإنسان المناضل. دائماً ثمة ذاك الإنسان صاحب النزوات، الذي لا يمكن التنبؤ بما قد يقدم عليه. كان هذا رد الفعل على كتاباتٍ تسلطت على الأدب بأيديولوجيات أعطت نماذج مفحمة على الأدب الرديء.
الخلط بين الأيديولوجيا، كمنظومةٍ قسريةٍ من الأفكار والمفاهيم الاجتماعية، لم يفسح المجال للسياسة كنشاطٍ إنساني تحرري، ودليل عمل محفز في وعي الكاتب؛ لا يمكن التعامل مع العالم والآخر والنفس من دونها، فالكتابة ليست عملاً آلياً، ولا تعتمد على الآخرين، بالأخذ عنهم. إِنها عمل ذاتي ينظر إلى العالم، من خلال السياسة والقيم والأخلاق والضمير، وما أحرزته البشرية من تقدم، وما تقاعست عنه. نتبينهم دونما تمايزاتٍ في الرواية والشعر والقصة والموسيقى والسينما والمسرح.
في النظر إلى عالم الرواية، يمكننا، بكل بساطة، أن نُلحق بما دعي الرواية السياسية روايات الفرنسي أندريه مالرو “الوضع البشري” و”الأمل”. الأولى عن الثورة الصينية، والثانية عن الحرب الأهلية الإسبانية. كذلك أعمال بلزاك التي تمتلئ بنبلاء الملكية الفرنسية وجنرالات نابليون المتقاعدين، ولا تشذُّ عنها “الحرب والسلام” لتولستوي، و”الشياطين” لدستوفسكي. كذلك الروايات التي تتعرض لسلطة الكنيسة، وصراعها مع السلطة الزمنية، وفي الإطار نفسه، الروايات التي تتعرض اليوم للجهاديين الانتحاريين … إضافة إلى الروايات المحيرة التي يُزعم أن لها علاقة غير مباشرة بالسياسة. .. والقائمة تطول.
يستحيل التخفّي على السياسة، حتى في قصة حب على جزيرة منعزلة عن العالم، لا تضم سوى رجل وامرأة.