إسطنبول – عبد الناصر القادري
“قلت له كانت مرحلة سوداء في تاريخ البلد، وأن أموراً كثيرة تغيرت، قال لي من يعيد الحياة إلى الأموات الذين قتلوا ظلماً، أو يعوض القابعين في السجون عما أصابهم من ضيم يستحيل إصلاحه، لا لم يتغير شيء بعد”.
تتصل هذه الكلمات باختصار بسيط لمشهد واحد من واقع سوريا كثير المشاهد المؤلمة، وإن كانت تقصد زمناً آخر، وعقوداً ماضية من البلاد المسيّجة بالمحرمات والممنوعات والقتل لمجرد خيار القتل، والاعتقال بالشبهة والصدفة، والإنهاء بهدف المتعة، واختبار القدرة على امتلاك العبور إلى هرم السلطة عبر استباحة الدم.
دونما أي سبب وأثناء إنهاء جيش حافظ الأسد لانتفاضة حماة المسلحة في ثمانينيات القرن الماضي، يدخل ضابط إلى المدينة المحاصرة، والتي تتلقف القناصة أي حركة برصاصها، لينهي حياة ثلاثة أجيال من عائلة واحدة هم جدٌ وأم ورضيع، بعد إرسال الأب الطبيب إلى حتفه عبر محكمة ميدانية أعدمت الآلاف دونما سبب أيضاً.
الضابط لم يكن لديه أوامر لتنفيذ الجريمة، إنما أراد اختبار قدراته على قطع صلة عائلة بالحياة، لن يترقى رتبة، ولن يحصل على علاوات، فهو قد نفذ عمليته الخاصة بلا شهود، بيد باردة، حالة من العبث في الطريق إلى سلطة رآها أكثر من باطشة.
القدرُ شاء أن ينجو الرضيع من المشهد التراجيدي للإعدام، حيث تمكنت سيدة عجوز من انتشاله من حضن والدته وإنقاذه من الموت المحتم، في مقاومة صامتة لعنجهية الضابط في قتل الحياة، وإصرار الطفل على العبور نحو المستقبل.
هكذا أراد الروائي السوري فواز حداد أن يحملنا معه من دمشق إلى حماة في روايته “السوريون الأعداء” التي أصدرها في عام 2014 (دار رياض الريس)، عندما كان النظام قد جرب أكبر عملية تدمير لمدينة داخل البلاد في شباط / فبراير 1982.
هندسة سوريا الأسد
تتمكن الرواية منذ الكلمات الأولى أن تشد القارئ نحو كل جزء وتفصيلة، حيث يعمل الكاتب بدقة وتأنٍ ويغرقنا بوصف مشبع لكل مشهد وحركة وسكون وأفكار، متتبع للأحداث كأنك تراها.
تسير الرواية في ثلاثة قصص متوازية، الأول مع قاضٍ من حماة يعيش في دمشق وهو شقيق الرجل الذي أفنيت عائلته، ومنع من الوصول إليها حتى يأتيه خبر مقتلهم جميعاً وبقاء ابن أخيه على قيد الحياة، انتقل من المحاماة إلى القضاء ليحقق شيئاً من العدالة، إلا أن ذلك محال في سوريا الأسد والفساد والبعث.
الخط الثاني، يكون مع الضابط القاتل الذي أراد صعود سلم السلطة بسرعة، فوشى منذ كان يّدرسُ في الثانوية بقريبه البعثي الذي عارض انقلاب حافظ الأسد في 16 من تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، واستمر بوشاياته وقسوته ليحطه القدر في القصر الجمهوري متسمياً بالمهندس الذي تُرسم سياسات البلد بحضوره وإشرافه، وتُحرك خيوط اللعبة بيديه.
المهندس فشل في مواصلة تعليمه أسوة بمعظم ضباط الساحل، ليتاح له رسم مخططات أخرى أكثر تشابكاً، حيث يخفي المآتم الصامتة على أرواح ضحايا حماة عبر سلسلة من الاحتفالات الصاخبة للانتصارات المزعومة على عشرات آلاف الأبرياء، ولتنتشر مع أعلام الحزب وشعاراته صور الرئيس العملاقة في كل من مكان من سوريا أخرى هي التي ولد بها السوريون هي “سوريا الأسد”.
وهو من ابتكر فكرة زرع مخابرات على المخابرات، لمراقبتهم وإحصاء كل شيء عنهم، مع الاحتفاظ بأضابيرهم لحين الطلب والمحاسبة، كان المهندس واحداً من دائرة الديكتاتور اللصيقة، التي تشرف على نشر فكرة الرئيس الإله، ومشيداً الأصنام له في ساحات وشوارع البلد.
هذه الخطوط المتوازية تتشابك وتتقاطع مع بعضها، حين يعلم المهندس أن الطبيب الذي أرسل للموت بقي حياً في تدمر وخرج من سجنه، كما نجا طفله
لكن الخط الثالث، كان موحشاً، حيث لم يستطع الأب الطبيب الموت في محكمة ميدانية بعد أن أرسله الضابط (المهندس لها)، إنما سار نحو نجاة تفتقد لمعالم النجاة وحقيقتها، حيث تسببت الخلافات بين أجهزة النظام المختلفة من جيش ومخابرات وسرايا دفاع وقوات خاصة، إلى إيقاف عمليات الإعدام وإرسال المعتقلين إلى أقبية السجون والفروع الأمنية في دمشق ومنها إلى سجن تدمر، حيث الجحيم الحقيقي، والموت لعدة مرات تحت التعذيب، غياب كامل عن الوجود، واختفاء لصفة المنطق والممكن، إلى معقلٍ من معاقل التوحش وصراع الإنسان السجين مع السجان المفترس.
هذه الخطوط المتوازية تتشابك وتتقاطع مع بعضها، حين يعلم المهندس أن الطبيب الذي أرسل للموت بقي حياً في تدمر وخرج من سجنه، كما نجا طفله، والقاضي الذي يتابع ملفات فساد المسؤولين هو شقيقه، ويصل إلى نتيجة مفادها أن موت حافظ الأسد سينهي فكرة الخلود وقد يعطل دوره.
يحكي الكاتب لنا بوضوح عن “الطائفة في مواجهة الشعب” وكيف عملت طائفة شغّلها الرئيس لحسابه على اختطاف البلد كلها، ويحملها في خضم ما يستند إليه من أحداث مسؤولية ما آلت إليه الأمور، وإن مرر في ثنايا قصته شخصية ضابط سنّي يجتهد بالقسوة والعنف لثبت ولائه، وبعض الشخصيات النسائية الفاسدة في عالم الأعمال والاقتصاد والمحسوبيات.
تفاصيل كثيرة وخيوط دقيقة ينسجها الكاتب، ليوصلنا إلى أن الثأر الذي بحث عنه الطبيب وابنه وشقيقه، ينتهي عند المهندس، خاصة مع تمكن الطبيب من خصمه الذي أفنى عائلته، حيث يضع السلاح في رأسه ليعترف بجريمته مبرراً فعلته، إلا أن صاحب الحق لا يفرغ الرصاص برأسه لأنه لا يكفيه، من هو المهندس أصلاً؟! الثأر يجب أن يكون مع النظام بجملته، استئصال لتاريخ السلطة وحاضرها، فالعقوبة كانت جماعية والعدالة من الطبيعي أن تكون مع كل المنظومة.
هدم المعبد
تنطلق ثورات الربيع العربي بشكل مفاجئ، لتدخل رياحها القوية سوريا بشار الأسد، بعد 11 عاماً من وراثتها عن أبيه القائد الذي لم يتمكن من الخلود لأكثر 30 عاماً في رأس السلطة جاثماً على أنفاس السوريين، ليستمر الحكم الأب من قبره عبر ابنه وحاشيته.
يخصص “فواز حداد” القسم الأخير من الرواية للمرحلة المعاصرة التي تتحدث عن بداية الثورة السورية عام 2011، في ربط ملحمي بين التاريخ والواقع، بين جرح الأمس وجراح اليوم، وتجسيد لاستمرار المجزرة حين مُسحت حماة حينها، وبدأ الدور على باقي المحافظات الثائرة الآن.
في تلك اللحظة، بدأ السوريون باجتياز الخطوط الحمراء جميعها، وداسوا على مقدسات المهندس، وحطموا أصنام القائد الخالد، ومزقوا صوره في لحظات توقف عندها الزمن يحفر تحت أركان المعبد ليهدمه، وزادوا عليها باللعنات والشتائم.
ومع عنفوان الثورة، كان هناك في المقابل نظام استخدم جميع أدواته في التعبير عن حبه وولائه للرئيس الشاب، قائد مسيرة التطوير والتحديث، ومسيرات مليونية انطلقت في المدن الرئيسية وساحاتها تحمل صور الرئيس وتفديه بالدم، في تأكيد على أيام دموية قادمة.
ينتهي مصير المهندس بعد كل الخدمات والتخطيط قتيلاً منتحراً بخيار النظام لأنه فكر في اغتيال الرئيس إن خضع للثوار
وكحالة حماة قرر النظام استخدام الحل الأمني بتوحش ضد المتظاهرين، وزج بالآلاف بالمعتقلات منذ الأيام الأولى، ثم بدأ بمسلسل القتل الجماعي وتدمير سوريا.
ينضم الطبيب وابنه للثوار ويأخذوا مكانهم في الثورة السورية ضد نظام الأسد الأب والابن، وينتهي مصير المهندس بعد كل الخدمات والتخطيط قتيلاً منتحراً بخيار النظام لأنه فكر في اغتيال الرئيس إن خضع للثوار أو استجاب لهم متراجعاً عن الحل الأمني الذي قد يصنع ديمقراطية وعدالة في البلاد.
“هذه البلاد لا يؤسف عليها، لن يبقى حجر على حجر، الآلاف المؤلفة من القتلى والجرحى والمفقودين وذوي العاهات، هذه البلاد بلاد الخلود والموت، المجد والخوف، لم يعانِ من الخوف، ولم يظفر بالمجد والخلود لغيره… والموت، كل هذا الموت والدمار ما كان ليحدث… لو أننا.. وضغط على الزناد كي لا يندم … “.
تمكن فواز حداد من إدهاشنا في قلم سيال سرد وقائع كثيرة وعمل على هز الذاكرة السورية لأكثر من عقدين، حينما بدأ مشوار تحدي النظام بالسلاح في حماة إلى أن قرر أطفال درعا أن يهزوا عرشه بأيديهم الصغيرة، وينهوا فكرة حكم الأبد إلى الأبد.