سواء اعترفت روسيا بوجود “مستشارين عسكريين” في سورية، مهمتهم تدريب القوات السورية على استخدام اسلحة ومعدات روسية الصنع تم توريدها وفق عقود موقعة مسبقاً. أو مجرد أنها عززت من وجود خبرائها في إطار التعاون العسكري التقني. أو أن هزيمة “داعش” تتطلب جيشا لديه معدات جيدة وتدعمه قوة جوية، أو عن ضرورة التعاون بين روسيا وجيش النظام المؤهل الوحيد لهذه الحرب؛ أو حسب تأكيد أجهزة الرصد الأمريكي عن ارسال روسيا سفينتي إنزال بري وعدداً من مشاة البحرية، كذلك وصول ثلاث طائرات عسكرية روسية، هبطت في الأيام الأخيرة في مطار حميميم… عموماً الأمر يتجاوز هذا كله، من فرط ما هو ظاهر للعيان، لقد أصبح للروس موطئ قدم في سورية. أما نفي النظام السوري لوجود قوات روسية. فهذا من المهازل التي اعتادها النظام ضارباً عرض الحائط بما بات معروفاً وموثقاً، أحدها اعتراف الراعي الروسي بأن النظام بات تحت حمايته.
من جانب آخر، اتصل وزير الخارجية الأميركية، بنظيره الروسي وأعرب عن قلق واشنطن من التعزيزات العسكرية الروسية، محذراً من تفاقم العنف في المنطقة. إلا أن النظير الروسي شدد على ضرورة تعزيز الحرب ضد الإرهاب. في الصدد نفسه، شعر البيت الأبيض بالقلق، وُصف هذه المرة بالقلق البالغ، فالدبلوماسية اللينة بدت على حافة الخطر، ما أدى إلى مكالمة هاتفية بين اوباما وبوتين، تعززت بالقلق نفسه.
هذا كله لا يضيف أو ينفي واقع التواجد الروسي فوق الأرض السورية على الرغم من القلق الساري الذي لم يقتصر أيضاً على الأمين العام للأمم المتحدة، فالجميع أصيبوا بعدواه، إزاء واقع إن لم يشبه الاحتلال، فهو لا يقل عنه. وإن كانت روسيا تلوح بأنها ستنفذ غارات جوية ضد تنظيم الدولة الإسلامية دعماً للنظام السوري، وأن ما تقوم به هو الشيء الصحيح وسوف يعتبره المجتمع الدولي مع الوقت شيئاً جيداً.
هل يعيد التاريخ نفسه، ما حدث في أفغانستان، قد يتكرر في سورية، لاسيما والأوضاع ملائمة تماماً فالأزمة السورية بعد أربع سنوات ونصف باتت مستنقعاً نموذجياً للخوض فيه، وإطلاق آلة القتل دونما محاذير، ما يغري على استثماره باستنزاف طويل المدى، أما الخروج منه فعسير. الواضح حتى الآن أنه بدأ يستدرج الدول التي لم يتجاوز القلق حدودها الدولية بعد. لكن بما أن اللاجئين اخترقوا حدودها فقد قدموا سبباً لها للتفكير بالإقدام على تجربة الحرب على أراض باتت صالحة للتدريب على تجربة أسلحتها المخزنة في المستودعات، قبل أن يطالها الصدأ، ما شجعهم على هذه المبادرة التي تأجلت طويلاً، أن الروس تجاوزوا نكبتهم الأفغانية وسبقوهم إلى المغامرة السورية. ما يفسر مسارعة فرنسا إلى المشاركة في تنفيذ ضربات جوية في سورية، وإعلان بريطانيا انها تفكر في الانضمام الى الطلعات الجوية التي ينفذها التحالف الدولي هناك، وأعلنت عن قتلها لمتشددين في غارة نفذتها طائرة من دون طيار الشهر الماضي. كذلك استراليا صرحت انها قد تنفذ ضربات جوية في سورية.
الجرأة الروسية من الممكن أن تكون حماقة، إن لم تكن مناورة مكشوفة وآمنة، فالكابوس الأفغاني ما زال حاضراً، لكن تدمير غروزني يرفع معنوياتهم، مع هذا لن تتورط في سورية، إلا بقدر محسوب، لئلا تستفرد إيران بالكعكة السورية، فالأزمة كلفت الروس الكثير من الدعم طوال أكثر من أربع سنوات سياسيا واقتصاديا وعسكرياً، وبهذا لن تقدم سورية غنيمة للإيرانيين، كما قدم الأمريكان العراق غنيمة للإيرانيين قبل سنوات. لن تكون روسيا بسخاء الأمريكان، ستدافع عن حصتها، سورية تشكل أيضاً بالنسبة إليها، منصة ليس حربية فقط، بل اقتصادية أيضاً الى الشرق الأوسط
وما اطمئنان بوتين لتدخله إلا لأنه يعرف بأن لا مانع لدي الأمريكان وحليفهم الإسرائيلي من توريطه بالمستنقع السوري، خاصة وأن بوتين لن يدفع بقوات برية للقتال، وإنما سيتبع الأسلوب الأمريكي في القيادة من الخلف، قاعدة عسكرية وخبراء وجنود للدفاع عنها…. في سباق مع إيجاد حل، لا يضطره الى الانغماس في حرب لا يعلم إلا الله متى ستنتهي.
إيقاع الحرب سيحكمه النزاع الخفي بين روسيا وإيران، إلا إذا نجحا في تقاسم الدويلة السورية الناشئة، وفي هذا موانع أحدها أن لكل منهما أنصار داخل أجهزة الحكم، ما يرفع سوية الخلافات، ولا يتوقع أن يتنازل أحدهما للآخر، إذ أن الجشع هو ما يحكم علاقتهما بالدويلة المصطنعة.
المأساة السورية التي بلغت الذروة وتفجرت عدة مرات، عادت كأنما من جديد، لتعيش إحدى فصولها المريرة، ما سيضيف ذروة أخرى، بالتواجد الروسي المسلح على أراضيها، إضافة إلى تواجد المليشيات الإسلامية المتشددة، كذلك الميليشيات المذهبية، القادمة من بقاع الأرض القريبة والبعيدة، ومن عصور مضت، تتكلم بلغة الغنيمة والسبي، أو الانتقام والثأر، قفزة التاريخ الدموية، لن تفرز إلا ضلالات مشؤومة تجاهر بالعداء للسوريين وللحرية معاً. أما قفزة الروس فسوف تضيف تعقيداً فوق تعقيد، وبلاء قد يصعب التغلب عليه طوال عقود قادمة طالما هناك امبراطوريتان، في طور استعادة امجادهما الغابرة، على حساب السوريين.
أي وباء هذا الذي يجتاح سورية؟!
-
المصدر :
- العربي الجديد