الملاحَظ طوال العام الفائت، الذي انتهى لتوّه، غزارةٌ روائية حافظت على اندفاعتها، وجرفت باقي الأجناس الأدبية. إلى متى ستحافظ هذه الفورة على تدفّقها؟ لا أحد يدري. أصبح لدينا مئات، إنْ لم نقل آلاف الروائيين، وهو خبر طيّب من ناحية العدد، أي الكمّ، لكنّنا لسنا واثقين من ناحية النوع؛ كما توحي النتائج غيّر الطيبة، الكثير منهم سيتساقطون على الدرب.
للأسف، هؤلاء الذين كتبوا بحماسة، لم يلاقِ جهد الغالبية العظمى منهم تقييماً مقنعاً أو غير مقنع على ما كتبوه، وربّما لا شيء. ربّما كتب عنهم الأصدقاء والمعارف، خاصّةً على “فيسبوك”، وفي ندوات صغيرة محدودة العدد، أي ضمن دائرة من المهتمّين القلائل جدّاً، وكأنهم يكتبون لأنفسهم، حيث يكاد الاهتمام برواياتهم أن يكون معدوماً.
ليسوا هُم السبب، ولا يُعزى فقط إلى عدم توافر نقّاد، بل وأيضاً صحافة تكتب عنهم. فالصفحات الثقافية آخرُ اهتمامات الصحافة العربية، بل وتعتبرها عبئاً على جرائدها. مع أن الذين يعملون في صحافة النقد الثقافي لا يمتلكون الثقافة ولا الأهلية للحكم على العمل الأدبي، فالنقد انطباعيّ، أو حسب ما قرؤوا، أو ربما ما لم يقرؤوا؛ وإذا كان مديحاً فالإطناب، وإذا لم يكن فالموضوعية، وهي موضوعية سطحيّة جدّاً تكتفي بتلخيص الرواية.
تشهد الرواية المصرية صحوةً ستعيد لها مكانتها
من جانب آخر، هناك انقسام الصحافة الثقافية، تِبعاً للانقسام السياسي. فالذين هُم ضدّ الثورات لا يوفّرون الروايات المتعاطفة مع الثورة من النقد الكيديّ، أمّا الجرائد الأخرى المحايدة، فتمتنع عن الدخول في هذه المعمعة، تأكيداً على اللاموقف الذي تنتهجه، وكأنه النزاهة بعينها، لكنه الانتهازية بعينها.
ولا نُذيع سرّاً بشأن النقّاد المحترفين، اللاهثين للحصول على الاستكتاب، وهُم من شغّيلة الثقافة المخضرمين، يسيطرون على الجرائد المعروفة، يكتبون مراجعات بائسة، ليست في النهاية إلا لعقدِ علاقاتٍ مع كتّاب من بلدان شقيقة، لزوم الدعوة إلى ندوات ومعارض، وهي نوع من الشِّلَلية لتسويق كُتّاب وكتابات. فالفساد الثقافي ما زال سارياً وناشطاً، مردوده حصّة مضمونة أيضاً من الجوائز.
كذلك لا تخلو المواقع الإلكترونية من صفحات ثقافية؛ فإذا صادف ــ وكثيراً ما يصادف ــ وكتبوا عن رواية، يسارع الكاتب ويزجي الشكر للموقع، وكأنها مكرمة غير متوقعة، بينما الموقع يقوم بواجبه تجاه الثقافة. وبما أن ذلك أصبح من الندرة، فقد بات أعطية كريمة، وهذا أسوأ ما وصلت إليه ثقافة النقد البنّاء، طالما أنها تهدم ولا تبني.
لم يرافق هذا الدفقَ الروائي ردُّ فعل يوازيه، فالنقد، أو بالأحرى المديح المبذول بشكل مبتذَل، مخصّصٌ للأسماء الكبيرة المكرّسة بالدعاية، فأصبح هناك أعمال عظيمة، لا تزيد عن أعمال عادية أو تحت عادية، لكنّ الاسم له ثقله في الأذهان من فرط ترداده، بينما في الواقع لا يشكّل مكانةً ذات قيمة فعلية، خاصّةً أنها تقوم على استثمار موضوعات دارجة، كاستثمار الإرهاب بما يرضي بعض الجهات التي تستثمر هي أيضاً في الإرهاب، أو الضحايا، وهو موضوع قد ينالون عليه الجوائز. فالضحايا، بات مثل أي موضوع، كالجنس والإباحية، والإساءة إلى الدين، من قَبل. أمّا القادم فهو المثلية، أي الكتابة على إيقاع الموضوعات الغربيّة.
ما سوف يحقّق انفراجاً في الرواية، هم الكتّاب المصريون الشبّان الذين أصبحوا على وعيٍ بإخفاق ثورةٍ ذهبت للعسكر، أمّا الذين باركوا العسكر فلاعتلاء المنابر، وتوزيع تنظيراتهم الجزافية في إرضاء أولياء نعمتهم. تشهد الرواية القادمة من مصر صحوةً ستعيد للرواية المصرية مكانتها، وتصبح خريطةَ طريقٍ للرواية العربية. إن لم تصحُ مصر، فالمنطقة ستغرق في النوم.
أكبر دفق روائي ما تشهده سورية المهاجر والمنافي
ربما كان أكبر دفق روائي ما تشهده سورية في الخارج، سورية المهاجر والمنافي: مئات الروايات تحت تأثير الثورة، وليس الزلزال الذي يُروّج له شبّيحة الثقافة. الرواية السورية تحرّرت من الرقابة، وبدأت تتعلّم على الكلام، سواء كان شهادات أو تجارب أو وقائع حقيقية، أو محاولات روائية. لقد خرجت من القمقم، وبدأت تتنشق الحرية، ولا تُجَيَّر لسرديات النظام. المحاولات لافتة، والقادم مبشِّرٌ.
لم يخلّف الربيع العربي الهزائم فقط، وإنما خلّف الوعي والتوق إلى الحرّية؛ باتت لدى الروائيين موضوعاتهم في الثورة والمرأة والعدالة، فلماذا استعارة موضوعات الغرب، ما دام لديهم ما يكتبون عنه؟ الأمر الجيّد أن الرواية تنمو وتُثمر بمعزل عن الجوائز، تلك الممنوعة عنهم، والمكرّسة للدلالة إلى عبث التغيير وفضائل الاستنقاع في المستنقع الكبير.
اليوم، تحصد الرواية أكبر عدد من القرّاء، والأمل في أن تكون لديها القدرة على الاصطفاف مع الحقيقة، ليس إسهاماً سياسياً، بل بالعكس، إسهام في الرواية، وإسهام في الواقعية، واقعية لا تخشى الممنوعات. رواية لن يصنعها إلّا روائيون حقيقيون، على تماس مع الواقع. الرواية بحاجة إلى الواقع، وليتذكّرْ الروائيّون الجدد دائماً أن ماركيز وبلزاك وتولستوي ودوستويفسكي وكافكا لم يكتبوا روايات عظيمة إلّا لأنهم كتبوا روايات مضادّة لواقع كان مصنوعاً من الأكاذيب والطغيان.
-
المصدر :
- العربي الجديد