قلما لم يتعرّض كاتب لروايات الروسي دوستويفسكي وأفكاره، سلبًا والأغلب إيجاباً، ولم يخف بعضهم تأثرهم بها. هناك روائيون كتبوا باستفاضة عنه، مثل أندريه جيد، وأحيانًا سيرة عنه، مثل ستيفان زفايغ وهنري ترويا. واندفع الروس إلى تمجيده بعدما اعتُرف به كاتبًا عظيمًا في بلده، وقبل ذلك صُنّف خلال ثورة 1917 كاتبا رجعيًا معاديًا للشيوعية، وأخضعت روايته “الشياطين” وغيرها للرقابة. كانت أفكاره مرفوضة، تجلّت واضحة في “مذكرات كاتب” المتضمن مجمل آرائه، فهو يهاجم المعجبين بالحضارة الأوروبية، ويدعوهم بـ”المستغربين الروس”، من فرط انبهارهم بها، في زمن كان من الطبيعي أن يتكلّم الأرستقراطيون الروس بالفرنسية حتى في ما بينهم، وينظروا إلى بلدهم على أنه مجرّد تابع للغرب بدون أصالة ذاتية وبدون خصوصية. انتقد في الوقت نفسه التيّار السلافي المتعصّب جداً للتراث الروسي الأرثوذكسي والكاره للغرب، في سعيهم إلى تحويل روسيا إلى أسطورة متفردة بذاتها. بينما انتهج دوستويفسكي الخط الوسط، لا عبودية للغرب، ولا عبودية للماضي، مع عدم التفريط بهما. على النمط الذي شاع الحديث عنه في بلادنا العربية قبل عقود تحت عنوان “الأصالة والمعاصرة”.
ما يلفت النظر أن بعض كبار الفلاسفة، تعاملوا معه كفيلسوف من جرّاء تطرّقه إلى قضايا فلسفية مركزية، طرح من خلالها أسئلة لم تفقد راهنيتها، طالما أنها كانت تتجدّد من حين لآخر؛ الله والشيطان، الخير والشر، قتل الإنسان للإنسان… وتمحور شخصيات روايته “الجريمة والعقاب” حول القتل والإيمان، وفي روايته “الإخوة كارامازوف” يربط إيفان بينهما بمقولته المشهورة: “إذا كان الله غير موجود، فكل شيء مباح”.
عندما تنفصل الفلسفة عن الحياة تخلق الرواية فلسفتها
نظر إليه ألبير كامو على أنه متنبئ حقيقي، تنبأ بسيطرة محاكم التفتيش الكبرى على الضمير، وانتصار السلطة على العدالة، ووضع روايته “الشياطين” إلى جانب عدّة أعمال كبرى، تشكّل التراكم الضخم لإنجازات العقل البشري مع “الأوديسة”، و”الحرب والسلام”، و”دون كيشوت” ومسرحيات شكسبير، وكان أبرز ما أثّر فيه، قدرة دستوفسكي على تفكيك أسرار الجوهر الإنساني، والتعبير عن “قّدَرنا التاريخي”، وإذا كان قد استطاع أن يهزّ المشاعر بعمق فلأنه عاش قدَرَهُ بصدق.
وكانت روايته “في قبوي” كتابًا أساسيًا لجان بول سارتر الذي اهتم بشخصية راسكولنيكوف في رواية “الجريمة والعقاب” وشخصية كيريلوف في رواية “الشياطين”، لما كان لهما من أهمية في الفلسفة الوجودية. لم يكن دوستويفسكي مهماً بالنسبة للمفكرين الفرنسيين فقط، بل أيضاً للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، حتى أنه أعطاه تفسيرًا خاصًا يتناسب مع فلسفته. يمكن عمل لائحة طويلة جدًا، تحتوي على دراسات وتعليقات لفلاسفة ومفكرين وكتّاب حاولوا الإجابة على ما أثاره دوستويفسكي فيهم من تساؤلات كفريدريك نيتشه وسيغموند فرويد.
تميز أسلوب دوستويفسكي بقدرته الفائقة على التعبير عن مكنونات النفس البشرية، خالط النظر إليها نزعة فلسفية إنسانية واضحة، ناقشت مختلف الدوافع المؤثرة في سلوك البشر. كان مفتونًا بالإنسان، مأخوذًا بتعقيداته؛ صبّ جلّ اهتمامه الأدبي على فهم طبائع الناس، وإدراك اختلافاتهم، والنفوذ إلى أعماق أرواحهم ورسم صورة كاملة عن مختلف أشكال حياتهم وأفكارهم ومشاعرهم.
حاول استكشاف الإنسان باعتباره كائنًا غير منطقي؛ تتأثر أحلامه ومخاوفه وآلامه بأشكال مختلفة لا تتبع منطقًا واضحًا، أو طريقًا واحدًا. كان في مقدرته الهائلة على التعبير بقوة عما يجول في نفوس شخصياته المتناقضة، ما يطرح السؤال المحير أيّهم كان: المتمرد، المؤمن، الملحد، الساذج، الأبله، الشكاك، الكافر، الشيطان، الفوضوي…؟
كتب عن هذه الفكرة بشكل أقرب إلى الدقة الفيلسوف الروسي نيقولا برديانف في كتابه عنه: “ينتمي دوستويفسكي إلى ذلك الجنس من الكتّاب الذين يضعون أنفسهم في مؤلفاتهم، فمصير أبطاله هو مصيره نفسه وشكوكهم وازدواجيتهم هي شكوكه وازدواجيته، ومحاولاتهم الإجرامية هي نفسها الجرائم المتوارية داخل نفسه، ومن ثم فإن سيرته أقل كثيرًا من مؤلفاته من حيث الأهمية”.
يعتقد البعض أن الرواية تتعدى على الفلسفة؛ المحراب الذي لا يجوز إلا للفلاسفة تخطي عتبته. إن أسوارها الشاهقة تمتنع على الرواية، لكنهم يتناسون، أو يتجاهلون أن الحياة هي مادة الرواية، وكل شيء مسموح لها، وعندما تنفصل الفلسفة عن الحياة، تخلق الرواية فلسفتها.
-
المصدر :
- العربي الجديد