دمشق – في روايته الأخيرة “الروائي المريب” يغوص الأديب السوري فواز حداد عميقا في تشريح حال الثقافة السورية زمن النظام السابق، وكيف تم تدجينها وتحويلها إلى مجرد أداة لخدمة هذا النظام، وتبرير سياساته القمعية تحت يافطات شتى، وقمع وإسكات كل صوت مثقف حر.

الروائي حداد يعتبر واحدا من الأسماء الأدبية التي واكبت الثورة السورية منذ بداياتها، وآمن بأفكارها ورؤاها ودافع عن مبادئها، ووثق لها في عدد من الروايات تجاوزت الخمس، ليكون عمله “الروائي المريب” هو أحدثها.

وفي روايته هذه لجأ حداد إلى تقنية الشخصية الغائبة، فبطل الرواية أسعد العراد غائب حاضر، حيث ينشر روايته الأولى ويختفي بعدها، ويترك خلفه طوفانا من الأسئلة حول انتماءاته وفكره، لاسيما أنه واصل النشر خارج إطار المؤسسات الثقافية التابعة للنظام وسلطته الأمنية، وشرع في رصد تاريخ سوريا منذ الانتداب الفرنسي، وحقبة الديمقراطية وصولا إلى مرحلة الانقلابات العسكرية.

ونجد في الرواية أن طبقة المتثاقفين من أدباء ونقاد منتفعين من النظام استنفروا لمعرفة مَن هذا الأديب الذي يطلقون عليه اسم “الروائي الشبح”، وحين عجزوا عن كشف هويته انساقوا إلى مهاجمته والنيل منه ومن روايته، لأنه كشفهم وعرّى نفاقهم للسلطة البائدة، التي كانت في قرارة نفسها تنظر باحتقار للثقافة وللمثقفين.

وحول هذه الرواية أوضح الأديب فواز حداد في حديث خاص معه أن “الروائي المريب” ليست رواية شخصية ولا سيرة ذاتية، لعدم مطابقتها لمواصفات هذين النوعين، ولكنها في الوقت نفسه ليست منقطعة الصلة عنهما، فالروائي يلجأ أحيانا إلى استعارات من حياته ومسيرته، مشيرا إلى أن هذه الرواية تروي عن أجيال من المثقفين، وتتناول تيارات أدبية تحولت إلى مفاهيم.

وإلى جانب ذلك ليست “الروائي المريب” توثيقية وفقا لمؤلفها، بل هي أحداث وشخصيات ومواقف وتقلبات وتحولات ومحاولات للتمرد في عالم كان قاسيا على الأدب، كان فيه غبن لأدباء لم يأخذوا حظوظهم، رغم ما بذلوه من جهد، وكان حكرا على أدعياء الثقافة والأدب من الراكضين خلف المنافع والشهرة الكاذبة، ضمن مشهد عام استمر طويلا.

الرواية ليست توثيقية بل هي أحداث وشخصيات ومواقف وتقلبات ومحاولات للتمرد في عالم كان قاسيا على الأدب

وحول تقنية الشخصية الغائبة التي استخدمها في روايته، يرى حداد أنه في هذا النوع يصبح غياب الشخصية يفوق حضورها، لأن ما يحركه غيابها من إبهام وتساؤلات يخلق حولها هالة، تتضخم مع قوة تأثيرها، وبقدر ما يفعله غيابها تؤكد حضورها، حيث يكون هذا الغياب برأيه فعالا بغموضه، وتستمد منه الرواية ديناميكيتها وتصاعد أحداثها وتوترها، وزئبقية شخصياتها، ما يناسب تعقيد مشاهد تدور في الخفاء.

وحول عبارة مثقفي الضباب التي استخدمها في روايته، يبين حداد أنها تعبير يشير إلى إخفاء بعض المثقفين مواقفهم الحقيقية، وعدم إظهارها، حسب الأحوال السياسية، وعندما تستدعي ظروفهم التحول من طرف إلى طرف، تكون مصالحهم هي العامل الأول في انحيازاتهم العلنية والسرية، وفي نفس الوقت كانوا يرمون الاتهامات على المعارضين من الطائفية والإرهاب والتأسلم، بينما كان انحيازهم للنظام الدكتاتوري.

وعن ميله إلى استخدام السخرية في روايته كأغلب أعماله السابقة يعيد حداد ذلك لقسوة الأحداث، معتبرا أن السخرية وسيلة للتعرية، تفضح انحطاط مدعي الأدب على الرغم من الرطانة التنظيرية التي يتحلون بها، وإذا كانت السخرية سوداء، فلأن الواقع أسود، حيث ترعى الدكتاتورية ثقافة يحرسها أقزام أيديولوجيون، وعملاء للسلطة، احتلوا المشهد الثقافي طولا وعرضا طوال عقود، مزودين بعقلية مخابراتية، قمعية ومتغطرسة، تستعمل كل الوسائل لإقصاء الآخرين.

يشار إلى أن رواية “الروائي المريب” صدرت الشهر الماضي عن دار رياض الريس للكتب والنشر، ومؤلفها فواز حداد كاتب سوري من مواليد عام 1947، متحصل على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق، وصدرت له 16 رواية، منها: “موزاييك دمشق 39″ و”الولد الجاهل” و”السوريون الأعداء”، ومجموعة قصصية بعنوان “الرسالة الأخيرة”، ومؤلفات بحثية، منها “الثورة السورية: الأيام الأولى من يوم الغضب إلى يوم الحسم”، ورشحت رواياته لعدة جوائز عالمية، ويعيش خارج سوريا منذ عام 2012.