عطالة العقل في الأنظمة الشمولية، مثلها في المذاهب المتناحرة والمتقاتلة، وعلى منوالها العلمانيات الصارمة والمتحجّرة، من دون خلافات جوهرية بينها، فالجوهر واحد؛ عقائد صماء تعيدنا إلى محاكم التفتيش في القرون الوسطى، ومحاكم موسكو في القرن العشرين في عهد ستالين، والتحقيقات الجارية في أقبية الدول الديكتاتورية في القرن نفسه، وما رحّل منها إلى القرن الحادي والعشرين بتكديس الاتهامات لمجرد الشبهة، ولا تستثنى منها أخيراً محاكم الشريعة في الخلافة حديثة الظهور في بلاد الشام، والتي انتزعت قصب السبق، آخذة على وجه اليقين تفسير العقائد المخالفة إلى تفسير واحد لا بديل عنه: التكفير.

في هذا الظلام، الإبهام والجهل دليلان ممتازان لا يعلى عليهما لإصدار أحكام الموت بالجملة وبلا محاكمات، ففي الظلام لا فرق بين الحق والباطل، ولا الجاني والبريء، طالما لا جدوى من الأسباب والموانع والروادع… لن يؤخذ بها جميعها، طالما الأخطاء البسيطة تستولد الخطايا، ما يشكل مع الزمن جرائم الفكر الكبرى، الآتية من زلات النصوص الصغرى. ففي مثال بسيط وطريف عن تلك التعديات الصغيرة، تذكر الأستاذة آذر نفيسي في كتابها “أن تقرأ لوليتا في طهران” شيئاً عن تصحيح هنات الأدب، كانت الشغل الشاغل للمسؤولين عن الأدب، وشكلت واحداً من أولوياتهم، على سبيل المثال، حذف كلمة “نبيذ” من قصة لهمنغواي، أو إصدار قرار بمنع تدريس رواية “جين آير” لشارلوت برونتي، وربما مرتفعات ويذرينغ لأختها اميلي بروتني، لأنها كما اتضح لبعض المسؤولين أن الرواية تتغاضى عن فعل الزنى؟!

إذا أردنا اختلاق المعاذير، فيمكن تفهّم أن احتساء النبيذ ممنوع في الإسلام، رغم أن الكتابة عنه لا يشملها المنع، لكن شاء مسؤولو الأدب ألا ينظر إلى احتساء النبيذ كأمر عادي، ولو كان في بلاد أجنبية لا تحرّمه. كذلك لو افترضنا أن أبطال برونتي يمارسون الزنى في الجو الفكتوري الأكثر تحفظاً في تاريخ بريطانيا، فمن باب الأخلاق والتاريخ، ألا يتسامح القرن الحادي والعشرون لإيران الاسلامية، رغم مضي الزمن على فعل ينتمي إلى دولة استعمارية غربت الشمس عن امبراطوريتها. هذا أنموذج لمحاكمات صغيرة تتمّ في حرم جامعي، وهو كلية للأدب الإنكليزي في طهران، من دون أن يتجرّأ أستاذ للأدب على الدفاع عن الأدب.

كتاب نفيسي، وهو كتاب يعتبر سيرة ذاتية وتجربة شخصية، لا يخلو من شواهد كثيرة، أحدها الأكثر غرابة، أن يكون هناك رقيب أعمى لما يدعى بالفنون البصرية، ما يؤكد أن العمى يتحدّى البصر، ويخترق الواقع. كان رقيب الأفلام الرئيسي في إيران حتى عام 1994 ضعيف البصر، وأقرب إلى أن يكون أعمى، عمل قبل ذلك رقيبا للمسرح، يجلس في
البروفة ويضع نظارات سميكة سوداء، إلى جواره أحد مساعديه يشرح له المشهد على خشبة المسرح. بعد انتهاء العرض، يعطي الرقيب أوامره بحذف الأجزاء غير المرغوب فيها. وبما أن الرقابة على هذا النحو غير المرئي كانت ناجعة، أصبح الرقيب ذاته رئيسا للقناة التلفزيونية الجديدة. عمد الرقيب الذي تفاقم عماه إلى تطوير وسائله الرقابية، وطالب كتاب السيناريو ومعدي البرامج بأن يقدموا أعمالهم على أشرطة صوتية، وراح يقيّمها وفقا للتسجيل الصوتي فقط، الأمر الأكثر إدهاشا هو أن الذي خلفه في ما بعد على المنصب، اتبع الرقابة ذاتها على الرغم من أنه لم يكن كفيفاً، ولا ضعيف البصر!!

إذا كان العمى لدى الرقيب الأول طبيعياً، وحاول صاحبه التخفي عليه، لئلا ينفضح، فالرقيب الذي تلاه، تابعه على عماه، فأصبح البصرعاهة بمثابة القانون واكتسبت شرعية تفتقر إليها حتى نصوص الشريعة المختلف عليها. هذا ما يدعى “العمى بالتسلسل”، ويعني أن الأعمى لا يصحّ أن يحلّ محله إلا أعمى ولو كان مبصراً.

لا يقتصر العمى على الرقباء، الظاهرة منتشرة، ليس كما في رواية “العمى” لساراماغو، وإنما بتنويع مختلف، فقادة البلاد، أضافوا إليه العمى المتوارث، وأيضاً العمى الإرادي، فشاؤوا ألا يروا في الربيع العربي، سوى مؤامرة لإشغال الشعوب العربية عن تحرير فلسطين، فشهد رواجاً قلّ نظيره، بحيث استدعى الدبابات والطائرات والمدفعية لتعميمه في بلاد العرب.