هل الكتابة عالم من الحرية المطلقة؟ قول لا يخلو من الغلوّ، لكن ليس مستحيلاً، هذا إذا شاء الكاتب ممارسة هذه الحرية، على الرغم من أخطارها اللامحدودة، ولقد فعلها كثيرون. ثمة حالة أخرى، أن يكتب ما يشاء، ويودع كتاباته الأدراج، إنها فرصة على الأقل للتنفيس عن النفس في عالم مقموع.
لا يكتب الكاتب لنفسه فقط، يكتب للآخرين أيضاً، ليست مشكلته مع القرّاء، مهما تنوّعت مشاربهم وثقافتهم، إنهم الجمهور الذي يتواصل معهم. مشكلته تتحدّد، مع هؤلاء الذين ليسوا قرّاء بالمعنى المتعارف عليه، وإنما الأوصياء الرسميون على الفكر، يشرفون على ما يتداول من أفكار بناءة، على أنها هدّامة، مع أنه لا يهمهم الكَاتب ولا الكِتاب، هذا لئلا نعطي للكاتب أهمية هو بغنى عنها، فاهتمامهم به لأغراض أخرى، يقال حسب ادعاءاتهم؛ الاستقرار منعاً للفوضى.
فلنتصور كاتباً ولو كان فطحلاً، يقرأه وزير، أو ضابط في جهاز أمني، أو مستشار في القصر الرئاسي… هذا مستحيل، هؤلاء لا يتسع وقتهم لهذه الأمور الصغيرة، وتعتبر في أفضل أحوالها ثرثرة لا جدوى منها، ربما لإثارة بعض الضجيج، فقد يهتمّون بكاتب خفيف الظل، للتسلية والترويح عن النفس.
” ليس الوشاة صنفاً واحداً، ثمة واشٍ قومي وواشٍ حاقد”
الرقيب الذي نقصده، قارئ محترف، وهو نمط غريب من المتعلمين، متواجد في اتحادات الكتّاب والصفحات الثقافية لجرائد الدولة، يعتبر نفسه بحكم مواقعه الأدرى بالثقافة، ما يجعله ضليعاً فيها، لا سيما وأنه يسترشد بتعليمات الحزب، أي أنه يمارس دوره الوطني والقومي والحزبي. وحسب تعريف إضافي: الواشي بدقيق العبارة، ما يمنحه الثقل أنه يقرأ بتمعن يحسد عليه، ينبش في الكتب والمقالات والمقابلات، يعرف من خبراته مكمن الخطر ويترصّد كتاباً معينين، يزعم أنهم من المشاغبين، يعكّرون صفو السلطات، لا المجتمع، إذ من يهتم بالمجتمع؟
يدعى هذا العمل في بلادنا السعيدة بـ”كتابة التقارير”، وهو نوع من الإنشاء الكيدي المتعمد، يبلغ فيه الواشي عن مخالفة خطيرة للجهات المختصة وهي كثيرة: الحزب، اتحاد الكتاب، وزير الثقافة، وربما القصر الجمهوري … إلخ. إذا كان الكاتب المتهم محظوظاً، يُوعز بقطع رزقه، وهو ما يشابه قطع الأعناق. غالباً تحوّل الوشاية إلى الجهة الأكثر اختصاصاً، وهي المخابرات للتحقيق معه.
ليس الوشاة صنفاً واحداً، فهم مثلنا أشخاص عاديون، وفي الوقت نفسه ليسوا مثلنا، فهم مكلفون بمهام قذرة. هناك الواشي القومجي الذي يقوم بواجبه عن غباء وطني، ويسعده القيام به. هناك الواشي الحاقد، الذي يعتقد أنه الكاتب الأوحد، فيسعى إلى الإساءة إلى غيره، ولا تخفي تقاريره شبهة شخصية لئيمة، مصدرها الحسد والغيرة، لا يضمنها تقريره، فيختلق تهمة، قد لا تعتمد ما كتبه المتهم، وإنما ما تلفظ به في مكان عام كالمقهى، فالكاتب أسوة بالزبائن لا يقعد صامتاً، يخطر له أحياناً الكلام، من دون أن يعمل حسابه لمخبر يتظاهر بأنه مثقف، يتعمّد الإصغاء إلى ما يدور حوله من أحاديث جانبية. وما يقلل من قيمة “الإخبارية” أنها تفتقر إلى دليل مكتوب، لكن الجهاز الأمني يأخذ بالإخبارية السماعية، وهذا نابع من ثقته بالمخبر، عدا عن الرغبة في الأذى توخياً للصمت.
قطعاً لدابر التقارير والمخبرين والوشاة والرقباء، يلجأ الكاتب إلى الانكفاء في بيته، متذرعاً بالصمت في برجه العاجي بحجة استدراج الإلهام، فينجو مما يجعله لقمة سائغة لرجال الأمن. فلا يكتب إلا ما يعسر فهمه، إلا في حال توافر قاموس خاص به يتضمّن ما تعنيه رموزه وألغازه. ما يعقد عمل الرقيب، إن لم يبطله.
المشكلة أن الكاتب، قد يتشدد في الرقابة على ما يكتب، فيطاول حتى ما يفكر فيه، كنوع من الرقابة الذاتية، أسوة بالخدمة الذاتية، يقوم بها لحساب الرقابة الرسمية، وإذا كانت مضمونة، فهي أسهل وسيلة لانتحار الكاتب.
-
المصدر :
- العربي الجديد