حاز الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي الهندي أمارتيا سن “جائزة نوبل التذكارية في العلوم الاقتصادية” عام 1998. امتدحت لجنة الجائزة إسهامه في تحسين الأسس النظرية لدراسة التفاوت الاجتماعي في توزيع الخيرات والثروات على البشر، بجمعه أدوات التحليل الاقتصادي إلى الفلسفة، وإثباته بعداً أخلاقياً في مناقشة المسائل الاقتصادية الأساسية. يمكن تفهُّم أبعادها في كتاباته، في ردّه ببساطة على من استشاروه في استثمار أموالهم قائلاً لهم: “ليس لديّ أيّ فكرة عمّا تسألوني عنه، ما يهمُّني هو من لا مال لديه ليستثمره”.
هذا المثال يدلُّنا على عدم استثناء حتى الاقتصاد، الذي لا يُعنى إلّا بقضايا المال والإدارة والتنمية، من العامل الأخلاقي، ففي عصرنا لا تقتصر الإنسانية على قسم أبقراط والمساعدات الإنسانية والمستشفيات والإغاثة، أو تحرز مفاعيلها في أجواء من السلام في العالم، فالاضطرار إليها في الحروب أكثر تطلّباً، بتقييد المتحاربين بقوانين لا يجوز تجاوزُها، كعدم استعمال الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، ومعاملة الأسرى، وتأمين الحماية للمدنيّين، ولو أنّ الكراهية والأحقاد لا توفّرها، فالحروب عمياء، لكن الإلحاح على تخفيف آثارها على البشر لا تزيّد فيه ولا ادّعاء، ولا هي قصة تديّن أو تفوّق أخلاقي.
في هذا المجال، المثقّف أوّل ما يخطر لنا، غالباً كداعية سلام، من هو الأجدر منه بهذه المهمّة؟ إنه في الطليعة، من ناحية أنّه من الطبيعي أن يتحلّى برؤية لا يغيب عنها العامل الأخلاقي، نتعرّف من خلاله إلى الطريق الذي يقودنا إلى الأقلّ إضراراً بالبشر، أي أنّه القدوة، يُرتجى السير وراءه.
من فرط الثقة بالمثقّف، يكون حسابه عسيراً ويصل إلى التعريض به
أحياناً من فرط الثقة بالمثقّف، يكون حسابه عسيراً، ويؤدّي التدقيق في أفكاره التي يطرحها، ولا تروق للبعض، إلى التعريض به إلى حدّ محاسبته، بحجّة اعتناقه أيديولوجية ما، وارتداده عنها، مع أنّ الأيديولوجيات تتعامل مع قضايا فكرية، يصحّ للمثقّف إعادة النظر فيها تبعاً للظروف والحالات، والعدول عنها، أو إجراء بعض التنقيحات عليها، ما يجب أن يعود عليه بالتقدير، لتراجُعه عن أفكار لا تفي بمتطلّبات عصر يتسارع ويتغيّر، فجدّد معتقداته من جرّائها، فالشيوعي، مثل اليميني المحافظ، ليس بالهيّن على كليهما مراجعة ما آمنا به زمناً طويلاً واعتبراه من المسلَّمات، ما يحتاج إلى شجاعة أخلاقية، لا تخلو من مواجهة مع النفس، للتبصّر في ما هو مُقدم عليه، إن كان يدلّ على شيء، فعلى حيوية فكرية، ما أدّى إلى تغيير بعض من آرائه، أو تصحيحها، وربما ليس إلى حدّ الانقلاب عليها.
أمّا إذا أصرّ على التعامل مع الواقع من خلال ما ثبت خطله، فذلك لا يسيء إلى أخلاقه بقدر ما يشير إلى عقلية متكلّسة، لا تستجيب للمتغيّرات، ليس في العالم، وإنّما في الفكر أيضاً.
بالعودة إلى أمارتيا سن، يمكن تفهُّم عدم استبعاد الأخلاق من الاقتصاد كعلم مصمت لا يقبل دخيلاً، كذلك ما يوصف بالارتدادات عن أيديولوجيات مغلقة، لكن ألا يكون مبعثها سياسات وصولية، ولا جرّاء انقلابات، وهو ما نشهده في العالم الثالث، أو متغيّرات في نظام الحكم من فوق، أو تجيير المصالح لجهة ما، قد تكون مراكز أبحاث موجَّهة نحو غايات انتهازية.
ولئلا يوصف الارتداد بالتحريف أو التنقيح، كأمرين مرذولين، أو الخيانة كإصدار حكم نهائي، ربما يصح أن يطلق عليه: الارتداد الحميد، طالما كان الفيصل فيه هو الانحياز لحرية الإنسان والعدالة والتطلُّع إلى المساواة.
-
المصدر :
- العربي الجديد