الأكثر احتمالاً، إن لم يحدث تحول ملموس في مسار هذا القرن، أن يكون هذا العصر، عصر

الارتدادات الكبرى عن الأنوار والحداثة، فالتراجعات الحاصلة عن حقوق الإنسان وتجاهلها،

وانبعاث عنصريات كانت ثاوية في العالم، وظهور علامات على انحدار بعض الدول إلى

الشمولية، وإقدام أجهزتها الأمنية على ملاحقة المعارضين من دولة إلى دولة بالاغتيالات

والسموم، وتعمد الدول الكبرى اختراق سيادة الدول بعمليات انتقامية وثأرية، واعتماد نهج

التخلص من المعارضين بالاختطاف والقتل، وعدم توافر دور فعال للأمم المتحدة، واستمرار

مجلس الأمن في تكريس نفوذ معطل إلى حد تمرير جرائم بحق البشرية من دون محاسبة.

سلسلة تفسر تقييد الحريات لصالح أنظمة تمارس سياسات استبدادية حديدية، توفر لشعوبها

السجون والمعتقلات والموت.

الأشد إرهاباً، تحول قادة دول إلى قتلة علنيين، تبدى بجلاء في تصريحات بوتين وترامب وحفنة

من موظفي إداراتهم أمثال لافروف وغيره، بإنكار التأثير المدمر لسياساتهم المنحازة، والدفاع

عن أعمال سفكت من الدماء، ما يدينهم كمجرمين محترفين، إلا مثالاً على ممارسات أصبحت

قابلة للانتشار في العالم. ليس أنها تشكك بدوافعهم في إجراء متغيرات ديمقراطية، وإنما في

إرساء أنظمة دكتاتورية، فإذا كانوا يشجعون صغار الطغاة، ويباركون أحكام الإعدام، ويغضون

النظر عن القانون، وبات عادياً ترحيل مواكب المعتقلين إلى المشانق من دون محاكمات عادلة.

جاءت إحدى المحاولات للخروج عن هذا السياق، من أكثر المناطق تعرضاً له، فالربيع العربي، لم

تصطف الشعوب فيه، إلا لأنها ترزح تحت إرهاب أنظمة دكتاتورية. ولم يكن عبثاً، المسارعة إلى

إحباطه، من دول وحكومات واستراتيجيات تمتُّ إلى القرن الماضي، اجتهدت في الحد من

تداعياته، بالعودة إلى ما قبله، وكأن البيروسترويكا لم تشق طريقها في روسيا نحو عالم جديد

يعوض عن عسف الشمولية، كان في بزوغ عالم من الأجهزة البوليسية السرية، ومافيا ترعرعت

في أحضان الفوضى الانتقالية. بينما الثورة الإسلامية في إيران، كأنما جاءت لتكرس أساليب

السافاك لا التخلص منها، وتسجل سلسلة من الإعدامات طاولت أعداءها وأصدقاءها دونما

تمييز، ثم التفتت إلى ساحاتها المشرقية، تشد مذهبيتها من أزرها في افتعال الحروب، وتمزيق

الإسلام على أمل استعادة أمجادها الفارسية، تنشد عالماً، لا يستوعبه سوى العودة إلى الزمن

الإمبراطوري الذي يتسع لطموحات لا تقف عند حدودها.

الإحساس بوطأة الارتداد نحو أجندات الماضي أكثر ما كان وقعه كارثياً في البلاد العربية، لأنها

تعيش أصلاً في الكارثة، حيث السلطات فيها تنحو إلى أن تتأبد، في وقت كانت فيه عاجزة عن

وقف تماوت أنظمة دولها الشمولية التي أصبحت خارج العصر، لكن سيسمح لها الزمان

الامبراطوري الروسي والإيراني بالتواجد على أطرافه كمحميات مستقرة تابعة له، تساير زمناً ممتداً إلى ما لانهاية.

جاء الربيع العربي في وقت يعيش العالم العربي متناقضات بالغة الخطورة، رغبة عارمة في

التحرر لدى الشعوب، مع وجود سلطات قوية فاشية تتحكم بها وتهدف إلى تطويعها أكبر قدر

من الزمن، بغية استنزافها، ثم الرحيل، لا شيء يربطها بالوطن سوى ما يغله من مكاسب، وفي

الخارج تستمر في العيش المرفه من استثمار أموالها الهائلة، هذه هي عقلية اللصوص المرتكزة إلى النهب.

لم يجد الربيع العربي ممانعة من العالم، كان مبهراً، طوفان البشر يملأ الشاشات، حصد

استقباله شعبية كبيرة من سرعة انتشاره من بلد إلى بلد، وبدا كأنه سيطوف العالم كله، ولن

يترك دولة من تأثيره، كان لدى كل شعب ما يدفعه إلى الاحتجاج، حتى في البلدان الديمقراطية،

وما كان أسهل إسقاط حكوماتها، وذهابها إلى الفوضى، نزعات التمرد غير خافية، تظهر من خلال

الاحتجاجات التي لا تنتهي، على أصغر الأمور وأكبرها، وفي الربيع كانت جاهزة للعدوى.

تميزت مظاهرات الربيع، بتجدد روح التعبير الطليق، بعد اختفائها عقوداً، تجلت انتصاراته بعدم

استعمال العنف، خلوه من الأيديولوجيات، واختفاء العسكر من ساحات احتلها الناس العزل.

كانت هبة شعوب، ما أعاد رومانسيات النضال إلى الواجهة، ببراءة عفوية.

ولكي نفهم قصة انهياره يجب إدراك أن معظم الحكومات العربية التي لم يقترب منها، كانت

في العمق ضد الربيع لمجرد تصور أنه قد يمتد إلى أراضيها، ولم تكن محاولاتها إلا للسيطرة عليه لئلا يمسها.

يعتقد الطغاة أن الربيع رحل إلى غير ما عودة، الأغبياء يعتقدون هذا، ألف باء الفصول، يقول

الربيع ليس نهاية الفصول، ولا يأتي مرة واحدة في الزمن، أنه فصل متكرر، لماذا؟ إنها قوة الخلق، قوة الطبيعة.