“إنّ أيّ تشابه بين شخصيات الرواية، وأية شخصيات حقيقية، سواء كان من الأحياء أو الأموات، هو من قبيل المصادفة البحتة”. هذه العبارة تُطالعنا أحياناً في فاتحة بعض الروايات، هكذا بحذافيرها، أو مع بعض التعديلات، وربما الإضافات، لينفي الكاتب أيّة علاقة بين شخوص روايته وأشخاص حقيقيّين فارقوا أو لم يفارقوا الحياة بعد، مع أنّ ما قام به فعلاً هو أنه انتزعهم من الواقع الحيّ، ووضعهم على صفحات روايته، مع بعض الرّتوش. فكان من الطبيعي، إن لم يكونوا هم بالذات فأشباهُهم، ويمكن التعرُّف إليهم دونما عناء.

يأتي هذا التنبيه لئلّا يقع الكاتب تحت طائلة القانون المكتوب أو غير المكتوب، ولئلّا يُتَّهَم بالتشهير بشخصيّات معروفة، ربما كانت من المتنفّذين في السلطة، ما يمنحه الحصانة بمستمسكٍ قانوني يحميه ممّا قد يناله جرّاء مقاضاته في المحاكم العادية. هذا طبعاً في البلدان الديمقراطية، وليس في البلدان ذات النظُم الشمولية، والمحاكم الاستثنائية، حيث لا قانون يحميه: لا التبرّؤ من روايته، ولا حتّى من الكتابة.

رواياتٌ تصف الدكتاتوريات البعيدة وتترك المستبدّ المحلّي

تُعيدنا الافتتاحية الى الأنظمة الدكتاتورية؛ لن تخدعها التقيّة، إذ مهما كانت فهي مكشوفة، وحتّى لو كانت أجهزة النظام الدكتاتوري غبيّةً، فلن تجوز عليها ولو كانت الرواية نظيفة. أحياناً، كي يتّقي الكاتب جبروت السلطة ووسائل رقابتها ومخابراتها، يبالغ في التخفّي، ويزعم بأنّ روايته تجري في عالم آخر يسبغ عليه تسميةً لا تُشابه أيّة دولة، كذلك أسماء المدن والقرى والشوارع. فيرسم خارطةً أخرى بديلة، وهْمية أكثر منها واقعية، ويُجري تصحيحات على وسائل المواصلات، فلا باصات خضر، ولا سجون، ولا شبّيحة، ولا مليشيات مذهبيّة، ولا مراكز تعذيب، ولا أجهزة أمنية جويّة أو بَحْريّة ولا حتى نهرية، بالتالي لا “فرع فلسطين”، أو فرع بأرقام، أو فرع بلا أرقام، ولا محارق جثث، أو مقابر جماعية. وقد تخلو هذه الخريطة حتى من المقابر التقليدية، لئلا يشتبه بالتعذيب حتى الموت. كما لا إشارة إلى الخلود، فهو صفة حصريّة ومحدودة جدّاً بأشخاص يتوارثونها، لا يجوز لأيّ بديل ــ ولو كان على الورق ــ انتحالها. ومنعاً للتشبُّه والتشابه، لا خلود ولو كان محدّداً، ولا أبدَ ولو كان مؤقّتاً. أمّا أسماء الأشخاص، فربّما اختلقَها، أو وضع أحرفاً فحسب.

وبالنسبة إلى الأحداث، لا يمكن الاستعانة بالأنموذج الكوريّ رغم توفّره، لأنه نظام صديق ورائد، ولا يجوز الإيحاء به، ولا بأشباهه من بقايا الدكتاتوريات العاملة على الأرض. فيستعين الكاتب بماضي أميركا اللاتينية الانقلابي، وحروبه اللامتناهية، يستلهم منها الدكتاتور وبطانته الفاسدة، وملامحه وكلابه ونزواته وعشيقاته وقصوره، وما ارتكبه من شرور وجنون، وأيضاً طرائفه: دكتاتور بلا طرائف يحيل الرواية الى مآسٍ جافّة تعوزها لمسة من الوضاعة المستحبّة، والحماقة المستحكمة، ففي النهاية هو إنسان، ولو كان وحشاً، لا يعدم أُمّاً حنوناً أرضعته حليباً فاسداً، وأباً ظالماً ضربه ليجعل منه رجلاً، ومِن فرط ما كان الضرب جائراً، جعل منه دكتاتوراً قاسياً، تشوب ملامحه المتجهّمة مسحةٌ من العَظَمة البلهاء.

تُقرأ الرواية، فلا يَشكّ الرقباء والمخبرون والواشون وكلابُ الأثَر، لا سيّما القراء، من فرط براءتها من المحلّية والإقليمية، فالمنطقة حافلةٌ بأنظمة على هذا النمط، بينما الرواية تتناول حماقات الدكتاتورية في تلك البلاد البعيدة المسكينة: أميركا اللاتينية، الرازحة تحت أمزجة الانقلابيين العسكر. وهكذا، بينما نقرأ عن دكتاتور يقبع في أقاصي الأرض، انتهى أجَلُه قبل سنوات، وبدأت بلده تتلمّس طريقها نحو الديمقراطية، يُطالعنا الدكتاتور المحلّي صباحاً مساءً، بريئاً وباسِماً، مقاوِماً وصامداً، ممانِعاً ومنيعاً.

يشكّل هذا الاستعراض الموجَز، الدليلَ إلى كتابة رواية عن الدكتاتورية، تُبعد الأنظار عن المحلّي بتسليط الأضواء على اللاتيني، كأنموذج وحيد لا شبيه له إلّا في روايات ماركيز ورفاقه الأميركان اللّاتينيّين، بينما دكتاتورنا يقتل بجميع أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة، القريبة والبعيدة المدى، والبراميل المتفجّرة، والسلاح الكيميائي المحظور دوليّاً، وينهب ما فوق الأرض وتحتها تحت رعاية العالم… والرواية أيضاً.