في أدبيات الحروب، تُقدَّم الحرب السورية مثالاً على أنها الحرب الوحيدة في العالم التي لم تتقيّد بأية خطوط حمراء، من استعمال الأسلحة الخفيفة مروراً بالثقيلة بأنواعها المختلفة، إلى الأسلحة المتطوّرة الحديثة جدّاً، وتجريب قدرتها على إيقاع القدر الأكبر من الإصابات القاتلة، وهو ما اعترف به ضبّاط قادة في وزارة الدفاع الروسية، من ناحية أن الأسلحة الجديدة أثبتت فاعليتها في تدمير المباني والملاجئ، بحجّة إفناء الإرهابيّين المتحصّنين في جحورهم، بينما كانت تقتل الأهالي المدنيّين في بيوتهم الهشّة.

مأثرة النظام الوطني كانت في ابتداع الأسلحة الرخيصة كالبراميل المتفجّرة ذات المردود الفعّال، واستعمال السلاح الكيميائي الذي أوقع إصابات مميتة بالنساء والأطفال، ما استفزّ “المجتمع الدولي” لتوافر مواثيق دولية أجمعت على منع استخدامه والعقاب عليه.

مع هذا، لم يتعدّ العقاب انتزاعه من مخازن النظام، ليس الكمية كلّها، فقد تعوز الحاجة إليه لاستخدامه ضد الإرهابيّين، وهو ما تغضّ الحكومات الغربية النظر عنه. فالإرهاب، البعبع الذي يهدّدهم، يجب القضاء عليه، ولو كانت فيه تسوية المدن بالأرض. طبعاً، سيبرهن النظام على أن البلدات السورية حاضنة للإرهاب؛ بشرط غياب الصحافة العالمية عن الحدث، والتشكيك بروايات الأهالي والشهود العيان.

“طالما سؤال العدالة مغيَّب فالإرهاب على قيد الحياة”

ستشكّل الحرب السورية مرجعية للحروب القادمة، وسنداً لتجاوزاتها. والأهم أيضاً، بالنسبة إلى المنطقة، ستشكّل درساً يُتلى من المنابر على المحتجّين، يستفيد منه أيضاً المسؤولون الحكوميّون. فحسب أحدهم: لن تخدعهم الورود التي يحملها المتظاهرون، سيعالجونها بالرصاص حسب النموذج السوري.

من جانب آخر، أصبح الصمت الدولي وارداً ولا يُثير استهجاناً، طالما أن الصفقات والتنازلات والمساومات تجري على حدة، من خلال قنوات سرية، بينما الحروب الوحشية وقمع الثورات تجري على حدة أيضاً، ستعلّم الشعوب التزام السكينة، والإيمان بدكتاتوريات حازمة ورشيدة.

نبّه “الربيع العربي” إلى القدرة الاحتجاجية للناس العاديّين على زعزعة الحكومات، فلا بروليتاريا ولا فلّاحين ولا مثقّفين ثوريّين، فقط الأهالي، ما يعني أن الأهالي غير مسالمين، بات الخطر يأتي منهم، كبؤرة صالحة لنموّ المنظّمات السرية والدعوات الانتحارية والاغتيالات.

ومع أنها أسلحة طرف ضعيف يعتمد على جهوده الفردية، مع استعمال وسائل الاتصال، لا يملك سوى مواهبه وعقله في تجاوز افتقاره إلى السلاح، لكن من غير المستبعد حصولهم على أسلحة مدمّرة، كما يُخشى من امتلاكهم أسلحة كيميائية. المشكلة أن الأديان جاهزة، وعلى استعداد لتقديم الدوافع للثورة. هذه المخاوف نُقلت إلى الغرب.

أمّا الذي لم ينقل، فهو أن المحتجين قد يبتكرون أيديولوجيات أو تنظيرات تساندهم؛ فالهوّة بين الناهبين والمنهوبين إلى اتساع، كذلك بين الأغنياء والفقراء، والظلم في انتشار، والفساد مهيمن. وبالتالي، فإن المناخ مهيّأ للشبّان الذين يطمحون للحرية والعدالة، للانتفاض ضد التمييز والفقر.

يمنحنا العالم الاعتقاد بوصولية حكوماته التي تدوس على ديمقراطياتها من أجل مصالحها، ولا تطرح سؤال العدالة، وهو جوهر إشكالية هذا العصر، هناك شعوب مغبونة بكاملها، تضطهدها دكتاتوريات غبية ومجرمة، هي الإرهابي الوحيد وأصل الإرهاب. تتحصّن بالغرب خشية السقوط، بينما الغرب يتحصّن بادعاءاته أنه يؤيّد كلّ جهة تحارب الإرهاب. طالما سؤال العدالة مغيَّب فالإرهاب على قيد الحياة.