اعتقد كثيرون، لدى ظهور الشبكة الإلكترونية وتمدُّدها في العالم، أنّها ستُساعد على نشر الديمقراطية، من خلال التواصُل بين البشر، وما تعِد به من حوار بين شعوب العالم بمختلف أنظمته الرأسمالية والاشتراكية وتلك التي لا هوية لها سوى الاستبداد، ما يُهدّد الكثير من الدول المتمترسة ضمن حدودها، التي تحظر انتشار الأفكار الداعية إلى الحرية، إذ لم يعُد للحدود فاعلية، وكان أكثرُ ما تعمل عليه أجهزتها الرقابية منع الكتب من الدخول إلى بلدانها.

ولا ريب، كان للإنترنت خطره المؤكَّد، بات منع الأخبار والكتب والأفكار غير ذي جدوى، إذ ليس من الممكن إغلاق الفضاء، ومهما حاولت الأنظمة منع التسلّل الإلكتروني، لا يمكن التغلّب عليه، فلجأت إلى العقوبات إلى حدّ بات وضع إشارة إعجاب يتعرّض صاحبها للمحاسبة، وتتراوح بين التحذير والسجن.

كان للإنترنت إسهام في انتشار ثورات الربيع العربي، والتحضير لها بالتواصل بين التنسيقات الشبابية التي أشعلت المظاهرات والاحتجاجات، واستمرار الانتفاضة إلى حدود الثورة، فكانت الحرب ضدّها إلكترونية أيضاً، وأصبح لدى الأنظمة عملاء يُشِيدون بالطغيان، يجري تسويقه عبر الأثير، بجيش من الذباب الإلكتروني، جيش لا يُستهان بفعاليته.

فقد كُشف مؤخَّراً عن شبكة من مروّجي نظرية المؤامرة الكونية، مدعومة من غرفة عمليات روسية، وبالتنسيق مع غرفة عمليات محلّية، كان لهما نشاط كبير ومؤثّر، بإطلاق آلاف التغريدات لتشويه واقع الصراع السوري، وتضليل المجتمع الدولي. كما ركّزت الحملة على إنكار الحقائق حول استخدام النظام السوري للأسلحة

الكيماوية، ومهاجمة النتائج التي توصّلت إليها منظّمة مراقبة الأسلحة الكيماوية في العالم.

مثلما يحاول نشر الديمقراطية، فإنّه ينشر الاستبدادَ أيضاً

الإنترنت سلاح ذو حدين، ومثلما يساعد على التواصل، يساعد على نشر الأكاذيب، ومثلما يحاول نشر الديمقراطية، ينشر الاستبداد؛ أي أنّ الحرب مستمرّة في الفضاء، ما يشكل واقعاً افتراضياً، يؤثّر في الواقع الحقيقي.

وإذا كان الإنترنت لم يحرز ما كان متوقَّعاً منه على صعيد الديمقراطية، فليس بسبب الرقابة ولا جيوش الذباب فقط، وإن كانا بمثابة المعوق في نشرها، إذ لم تنطلق المناقشات كما كان الاعتقاد، فلم تأخذ الحرية المجال الأوسع، وذلك لانضواء الأفراد في تجمّعات افتراضية متجانسة الآراء، وطرد كلّ من لا يشاركهم أفكارهم، ما قيَّد المناقشات وأبطل ما يُرتجى منها، في الحوار بين أطراف مختلفين، وما التجانس المطلوب سوى التفاعل بينهم، على أمل حصول توافقات، وإن لم تحصل تطابقات. هذا التداخل كان سيمهّد لحوارات عميقة. إن تعمُّد التشابه وتفادي الانقسام في الرأي وتجنُّب التعارض يُهدّدان روحية الجدل وجوهره.

ماذا يعني تعدُّد الآراء إن لم يُفض الى مجموعات من البشر يجمعها الطموح نفسه إلى المشاركة في النقاش السياسي والاجتماعي، وتبادل المعلومات على أمل التجانس، لكن ليس من دون أخذ ورد، ما يكشف عن مدى القدرة على تعريض آرائنا الى آراء مختلفة، وربما مناقضة، ما يُمَكننا ويُمَكنهم، من اختبار تماسك ما نتبادله من وجهات نظر.

هذه المناقشات تسمح بها وسائل التواصل، لكن هل نحن قادرون عليها؟ إذ إنّ الأفراد يميلون إلى تفادي مخاطبة من يختلف معهم في الرأي. ما نشهده كثيراً أنّ النزاع على صفحات التواصل الاجتماعي يبلغ حدّ تبادل الشتائم وتعريض المتخاطبين أنفسهم إلى مواقف مزعجة.

ما يجب إدراكه أنّ الحياة في عالم متعدّد الآراء والتطلّعات يُرتّب على الجميع تفهُّم أنّنا نعيش في بلدان ومجتمعات متنوّعة الآراء، ما يؤدّي إلى قيام مناقشات ومناظرات قابلة للتصادم في الرأي، ما هو إلّا نتيجة طبيعية لنشوء حوار حرّ. أمّا القول إنّ العالم أصبح طريقه إلى الحرية والديمقراطية واضحاً ولا خلاف عليه، فبالعكس هناك خلافات، وإنكارها يعني تبسيط الواقع إلى حدّ الاخلال بفهمه.

لن تكون وسائلَ تواصل إن لم تكن وسائل اختلاف، فالحوار ليس لنسمع صدى أصواتنا.