القراءة، أفضل ما فعلناه في هذه العزلة القسرية، مع أن سوق الكتاب يعاني من الركود بسبب الحجر على حركة البشر، وخاصة في بلادنا، فتأمين لقمة العيش، أولى بالسعي إليها. مع هذا أصبح للكتاب حظ أكبر برواج القراءة عما لاقاه من كساد سابقاً، فالترويح عن النفس مطلوب، والوقت متوافر، وفائض عن الحاجة، والفراغ مشكلة أحسسنا بوطأتها، ولم يكن هناك سوى الكتاب ينقذنا من الملل، وأيضاً من اليأس والوساوس، ما دام يشغلنا عما كان لا يخطر على بالنا إلا لماماً، وبشكل عابر.

من جملة ما اكتشفه كثيرون منّا، أن هناك أكداساً من الكتب بمتناول أيدينا، بجانب السرير، على الرفوف، وفي الصناديق. أجّلنا قراءتها في زحمة الحياة. حسناً، لقد حان وقتها. كذلك اكتشفنا توافر الكتب بكمّيات هائلة، تشقّ على الحصر، على مواقع مكتبات عامة وخاصة تشجع على القراءة بتنزيل الكتب مجاناً، سواء كانت نظامية أو مقرصنة، مجال الاختيار واسع جداً، يشمل أنواعاً كثيرة مختلفة ومتنوعة؛ سياسية، أدبية من رواية وشعر وقصة، تاريخية، فلسفية، علمية، دينية، تراثية، مذكرات، سيرة ذاتية …الخ.

في العزلة أصبحنا أكثر التصاقاً بالكتاب، ما نقرأه، أبعدنا عن الأرقام، وقرّبنا من الحروف، وكسر غربتنا عن الكلمة المكتوبة، لم نعد نمرّ على السطور بعيوننا، الفاصلة والنقطة تختلق صلتها الحميمة معنا، يجمعنا حوار شيّق مع الكلمات، ليس لأن الكتب تتحدث عن هذه الحياة فقط، بل عن تلك الحياة الموازية الحافلة بالإثارة والغرابة، تذكرنا أن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة، يتضاءل بالمقارنة معها هذا المنظر الذي نرمقه من النافذة، أو نطل عليه من الشرفة، ولو استعدنا صخب الشوارع، وثرثرات المقاهي، وأماكن محملة بالروائح والأنفاس والأضواء، معالم عشنا وسطها، دون أن نعيها تماماً، كنّا على عجلة من أمرنا. بينما تحيلنا الكتب إلى حياة كان ينبغي أن تكون حياتنا، ولو غصّت بالحماقات والزلّات. ليست الحياة نظيفة، ولا الهروب منها مجدياً. هناك حب كدنا أن نعيشه وأفلتناه، وأخطاء لا يفوتنا الاعتراف بها ولو متأخرين. تضعنا الكتب في صميم حياة كنا نظن أننا في قلبها، بينما نحن على هامشها، يذهب بنا الحنين إلى الذكريات، كم كانت رائعة!

” حياة كنّا نظن أننا في قلبها، بينما نحن على هامشها”

القراءة عمل جميل ومنتج. حسناً، عمل جميل، لكن ما الذي تنتجه؟ في هذا الوقت المحيّر، نفتقد لليقين تجاه المجهول، تأتي الكتب تحرّك أفكارنا، تبثّ فينا الحيوية، وتثير تساؤلاتنا، سواء كانت بجدوى أو بلا جدوى، حالة نحسّ نحن الأفراد بالشلل إزاءها، ما دامت حكومات العالم، مهما ادعت من العلم والمعرفة، عاجزة أمام جائحة تصيب يومياً مئات الآلاف، وتحصد عشرات الآلاف، ولا ضمانة بإنهاء هذه المعاناة، أي قرار قد يتخذ لا يخلو من المخاطرة، إلى حدٍ لا تتجرأ دولة على إعلان الهزيمة أو النصر، التفاؤل مؤذ مثل التشاؤم.

وإذا كان هناك متسع للنصائح، فالنصح بقراءة تأخذنا إلى عوالم مختلفة، عوالم تحتوينا، قد نجد في الروايات الضخمة بغيتنا، هناك روايات عظيمة ورائعة، المثال الوارد غالباً “الحرب والسلام” للروسي تولستوي، فإذا كنّا نتخيّل أننا في حرب، خصمنا فيها لا يرى، وهذا سرّ قوته، فهذه الرواية ستدلّنا إلى قوة الإنسان، وتصميمه على الانتصار. وروايات دوستويفسكي الكبرى، مثل “الإخوة كارامازوف” تطرح ما يمسّ الإنسان سواء كان في روسيا وأوروبا، أو في بلادنا المصابة بالشقاء، إنها عن الإيمان والجريمة والجنون والحب والشفقة والعار… عن المشاعر الإنسانية في أقصى حالاتها. هناك أيضاً “أُسرة تيبو” للفرنسي روجيه مارتن دوغار، ملحمة روائية عن عائلة برجوازية، في مطلع القرن الماضي إلى نهاية الحرب العالمية الأولى.

ميزة الروايات الضخمة، تكمن في الولوج إلى عالم نتجوّل فيه نحن البشر من مكان لآخر، نتنقل من زمان لآخر، نخوض بين الأفكار والأحداث… نعيش في داخلها، ونصبح جزءاً منها.

يعتقد الكثيرون أن الروايات الضخمة، معطوبة بالتطويل والإطناب، ويمكن اختصار رواية بآلاف الصفحات، بمائة صفحة أو أقل. نعم، هذا إذا كان من الممكن اختصار حياة إنسان بلحظة الولادة والموت، لكن الحياة تقبع بينهما.

“كورونا” أخذتنا إلى الرواية، وفي حال نظرنا إلى هذا الوباء على صفحات كتاب، فالتشبيه الأقرب، أنه نجح في وضعنا داخل رواية مفتوحة على الكثير من الاحتمالات.