لم تكُن خسارة الشعب الفلسطيني لقضيّتين أساسيّتين بفعلٍ منه، ولا كان هو السبب. قضيّتان كانتا الأهمّ في النضال ضدّ “إسرائيل”، بعدما كان اكتسابهما بقبول دولي، وأصبحتا إبّان نضال شعوب بلدان العالم الثالث بحُكم القانون وبمثابة الأمر الواقع.
القضيّة الأُولى؛ صدور القرار التاريخي، رقم 3379، عام 1975 في “الجمعية العامّة للأمم المتّحدة”، الذي اعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، وأنّ أيّ مذهب يقوم على التفرقة العنصرية أو التفوّق العنصري، مذهب خاطئ علمياً، وظالم اجتماعياً، وأشار إلى التحالُف الآثم بين العنصرية في جنوب أفريقيا والصهيونية، وطالب القرار جميع دول العالَم بمقاومة الصهيونية لأنها تشكّل خطراً على الأمن والسلم العالميّين.
في عام 1991، كان لتدخّل أميركا في “الشرق الأوسط”، والتلويح بعقد “مؤتمر مدريد”، الادّعاء بأنها ستكرّس جهودها لإيجاد حلّ للأراضي التي احتلّتها “إسرائيل” عام 1967، وطالبت البلدان العربية بقبول إلغاء القرار، كشرط لمشاركة “إسرائيل” في المؤتمر وإقناعها بالحلّ.
بعده، لن يُسهم المؤتمر بحلّ، ولم يكن إلّا خديعة، وتنكث أميركا بوعدها، وتنجح “إسرائيل” بفرض نظام عنصري في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، وكان بتفتيت وحدة الأراضي الفلسطينية وقضمها بالتدريج، وممارسة القمع على الشعب الفلسطيني بشتّى الوسائل، سواء بالقوانين أو السياسات التي تضمن سيطرة دولة الاحتلال كجماعة عرقية، واستخدام الوسائل الكفيلة باستمرارها كعلاقة تتحكّم بالشعب الفلسطيني.
حالة انحياز دوليّة أنتجت كياناً شاذّاً اسمُه “إسرائيل”
وُضعت التجاوزات الإسرائيلية مراراً أمام “الجمعية العامّة” و”مجلس الأمن”، وكانت مدار البحث في أوساط الدبلوماسية الدولية، وصدرت قرارات ضدّ “إسرائيل”، لكنها لم تعبَأ بها. كان منطوق الخطاب الصهيوني الفعلي والدائم هو أنّ قرارات “الأمم المتّحدة” لا تساوي شيئاً، ما كرّس “إسرائيل” دولةً فوق القانون، بدعم كامل من أميركا وأوروبا، أي ما يُدعى بـ”العالم المتحضّر الديمقراطي” باعتبارها جزءاً منه.
في عام 2021، سيقوم “المركز الإسرائيلي لحقوق الإنسان” في فلسطين المُحتلّة “بتسيلم”، ومن داخل “إسرائيل”، وللمرّة الأُولى بإطلاق وصف “أبارتهايد” على دولة الاحتلال، ويتّهمها بأنها دولة فصل عنصري، حدّدها بشكل واضح بأنّها تشمل كلّ المنطقة التي تُسيطر عليها “إسرائيل”، داخل الخطّ الأخضر والضفّة وشرقَي القدس وغزّة، يقوم فيها نظام واحد يعمل وفق مبدأ ناظم واحد: تحقيق وإدامة تفوّق جماعة من البشر هُم اليهود، على جماعة أُخرى هُم الفلسطينيون.
وفقاً لتقرير “بتسيلم”، حقّقت “إسرائيل” مبدأ التفوّق اليهودي جغرافيّاً وديموغرافيّاً وسياسيّاً، بحيث يتمتّع اليهود بالحقوق الكاملة وتقرير المصير، بينما يعيش الفلسطينيّون بلا حقوق. وفي حين يحقّ لجميع يهود العالَم الحصول على الجنسية الإسرائيلية، لا يمكن لأيّ فلسطيني الهجرة إلى المناطق الفلسطينية التي تُسيطر عليها “إسرائيل”، ولو كان هو نفسه أو والده أو جدّه قد وُلدوا فيها، بينما لدى الإسرائيليّين الحرّية الكاملة بالتنقّل بين مختلف المناطق التي تُسيطر عليها “إسرائيل” باستثناء غزّة، ولا يحقّ للفلسطينيّين التنقّل من دون الحصول على تصريح إسرائيلي خاصّ، أمّا السفر إلى الخارج فمشروط بموافقة “إسرائيل”. يعيش الفلسطينيّون سكّان المناطق المحتلّة تحت نظام عسكري صارم في الضفّة، وفي قطاع غزّة تحت الحصار، مع سيطرة “إسرائيل” الفعّالة من الخارج.
اللافت، خلال خمس عشرة سنة من صدور قرار “الجمعية العامة للأمم المُتّحدة”، انتقلت “إسرائيل” من دولة مُدانة بالأيديولوجية الصهيونية إلى دولة حاصلة على البراءة من العنصرية، ثم دولة “أبارتهايد” نموذجية تمارس التمييز العنصري بواسطة قوانين جائرة لا تُحاسَب عليها، كما بات أشبه بالمستحيل الحصول على قرار يدينها على اختراقات تُعتبر جرائم متكاملة الأركان بسبب “الفيتو” الأميركي.
ليست العدالة سوى شعار متداول وغير قابل للصرف في الواقع
القضية الثانية، وتُعتبر خسارةً للشعب الفلسطيني، وجميع حركات التحرّر الوطني، والثورة على الاستبداد، كانت نصراً تحقّق إبّان انتفاضات شعوب آسيا وأفريقيا ضدّ الاستعمار، وأكسب نضالات الشعوب الحقّ في تقرير مصيرها، واعتبار حقّ المقاومة مشروعاً، ما أدّى إلى وصف حركات المقاومة بحركات تحرُّر وطني، طالما هناك احتلال واستعمار.
استطاع الشعب الفلسطيني انتزاع وصف لنضاله ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، مرتبط بالنكبة ونشوء الكيان الصهيوني، يسمح له بإزالة الاستعمار والاستيطان باللجوء إلى استعمال القوّة المسلّحة، كأسلوب للتخلُّص من الاحتلال، مع الحقّ في تقرير المصير.
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، كان لهيمنة الولايات المتّحدة على العالَم، مفعول سلبيّ. بدأ الأميركان بإفراغ الإنجازات التي فرضتها نضالات الشعوب من مضمونها خلال الحرب الباردة، واستغلّوا هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 على “مبنى التجارة العالمي” في نيويورك، لشنّ حرب على حركات التحرّر تحت دعوى الإرهاب، بالضغط على هيئات “الأمم المتّحدة” و”مجلس الأمن” والمجتمع الدولي. هذا المفهوم جرى تعميمه في العالم، استفادت منه “إسرائيل” والأنظمة الدكتاتورية في العالَم، بحيث أصبح الإرهاب مانعاً للتحرّر، ومبرّراً لأنظمة الطغيان والعنصريات لممارسة المزيد من القمع.
هذه التراجعات، أدّت إلى عكس ما كانت الآمال تتّجه نحوه، في تحسين شروط حياة البشر من حرّية وعدالة تُمليها الحقيقة الإنسانية. فالحقيقة معروفةٌ مثلما الطريقُ إلى العدالة، والحرّية غير مجهولة، لكنها مصالح الدول الكبرى ومطامعها، ونزوعها إلى الهيمنة، تجري في كواليس المحادثات السرّية، يتدخّل فيها الفساد السياسي والرشاوى وانتهازية السياسيّين، لا تأخذ بالاعتبار مصالح الدول الصغيرة ولا طموحاتها للحرّية والازدهار.
خلقُ حالة دولية غارقة في الانحياز وعدم الإنصاف، أنتج مع الوقت وضعاً شاذّاً، هو “إسرائيل”، مقبولاً كاستعمار استيطاني، بعدما لفظ الاستعمار أنفاسه في القرن الماضي، حظيت عودته بقبول الدول الديمقراطية، مع أنّها يجب أن تكون أوّل الرّافضين له، كانت سبب ترسيخه، واعتباره طبيعياً.
لا تهتمّ أميركا بالمنطق ولا بالقانون، فأن تكون “إسرائيل” ككيان محتلّ، دولة تُمارس الفصل العنصري تحت أنظار العالَم، يُشير إلى تغطية دولية أيضاً، تمنح “إسرائيل” حقّ الدفاع عن إجراءاتها الاستيطانية بحرب إبادة، واعتبار “حركة حماس” منظّمة إرهابية، في حين أنّ القانون الدولي المُضادّ للاستعمار يعترف بها منظّمة مقاومة مسلّحة، وحركة تحرّر وطني، وهو ما ينبغي التمسّك به والإصرار عليه، وإلّا فَقدت حركات المقاومة الحقّ في التحرّر من الاستعمار بأشكاله كافّة.
ليس من المفارقة أن يخسَر الشعب الفلسطيني حقوقه في مؤسّسات المجتمع الدولي، فالعدالة مجرّد شعار متداول، غير قابل للصرف في الواقع، طالما الدول الكبرى تصنع الظُّلم.
-
المصدر :
- العربي الجديد