في حال افترضنا أن للتاريخ ناطقاً رسمياً مكلفاً بالتكلم باسمه، فحسب اجتهاداته: إن العالم لم يكن مخيراً إزاء الحروب. المعنى أن الحرب ضرورية لإزاحة بنى قديمة تعيق ظهور بنى جديدة. لذلك لا يمكن طرح اعتراض حول إمكانية حدوث التحولات الكبرى من دون قتل الملايين من البشر وتدمير مدن بحالها. ومع هذا لم تركن الدول لمنطق التاريخ الأعوج، فهو ليس أكثر من تأملات مؤرخين ممسوسين بالقدرية التاريخية.

استطاعت الدول التي حاولت حل نزاعاتها بالحروب، الاتفاق بعد الحرب العالمية الثانية على أنه لا بد للسلام الدائم أن يشمل المعمورة، ولم تكن المعمورة بالنسبة إليهم سوى أوروبا وأميركا، أما باقي العالم فمستعمرات مفتوحة للنهب العالمي.

واجهت هذه الفكرة معارضة من ستالين، الذي انفتحت شهيته بعد تقاسمه النفوذ مع أميركا، بدا العالم مفتوحاً أمام آلته الحربية على الرغم من الدمار والجوع والخراب الذي أصاب روسيا، كانت منكوبة حتى العظم، لكنّ شهوة الفتح والضم كانت أشد جاذبية وربحية.

“عندما يبلغ الفساد من البذاءة حداً متوحشاً، فالمعادل لا يقل عنه وحشية “

ولم تكن شهية الغرب بأقل، لكن الغرب الموحّد خلف أميركا، كان مدمَّراً، ليس بوسعه أكثر من الحفاظ على مستعمراته. ومع هذا انتشرت حروب، روعي فيها أن تكون بعيدة عن أوروبا، الخشية الوحيدة كانت انتقالها إلى البلاد التي اتخذت قرار الحرب، وكان محتملاً.

غير أن العقلانية ستفرض طبيعة الحروب القادمة، فعملت الدول على تخفيض درجة حرارتها بصياغة مفهوم الحرب الباردة، وهكذا تجنّب العالم حرباً ثالثة، على أمل تحقيق سلام دائم، أخفق لأن الحروب الصغيرة، كانت تقلب حكومات، وتشرّد شعوباً، ولو أنها بعيدةً عن القارات الآمنة.

بعد مضي نحو ربع قرن على انتهاء الحرب الباردة، ترسخت الحروب القديمة، وتنوعت الجديدة وأصبحت أكثر من أن تحصى: الإقليمية، الأهلية، الدينية، الطائفية، العنصرية، القبائلية، العشائرية… أضاف إليها التقدّم الحضاري: الحرب الكيميائية والنووية والاقتصادية والإلكترونية… أشدّها غرابة، ولا ندري إن كانت تقع تحت إحدى المسميات السابقة، هذا إن كان لها تسمية، وهي إعلان الدولة الحرب على الشعب، حرب هي الأكثر حداثة، ابتدعت للقضاء على “الربيع العربي”.

دعيت هذه الحروب عموماً، بحروب الحداثة، وأحياناً ما بعد الحداثة، تصدّرها الإرهاب، وهي حرب مجموعات من البشر اليائسين، رغم أن بعضهم يطمحون إلى إقامة دولة الخلافة.

استعملت في هذه الحرب وسائل الاتصالات الحديثة، وبواسطتها جرى تجنيد عناصرها الشبان، وشحنهم بأكثر الأفكار تشدداً، وتحريضهم على عمليات توقع أعداداً كبيرة من الضحايا، وبأشنع الأساليب، وبأقل تكلفة، بتدريبهم على صناعة المتفجرات واستعمال الأحزمة الناسفة. فالإرهاب هو أيضاً حرب الفقراء ضد الأغنياء، وحرب المهمشين ضد السلطات، وحرب طلاب الجنّة ضد رعاة عالم الجحيم الأرضي.

عندما يبلغ الفساد من البذاءة حداً متوحشاً، فالمعادل لا يقل عنه وحشية. لكن قدراً من التبصر، يحقق عدالة تمنع الإرهاب.