يبدو مفهوم “الواقعية الاشتراكية” بريئاً، مجرّد تيّار أدبي في عالم الأدب الشاسع، يُعتبر فيه الكاتب مسؤولاً عن التصوير الصادق للحياة، وإذا استعان بالتاريخ، فمن أجل متابعة تطوّر الواقع في الزمن، أين كان، وأين أصبح؟ ما يحيلنا إلى العملية الثورية التي طرأت على العالم، وأجرت تحوّلاً جذرياً، ما يعني تأثير الثورة الاشتراكية في الواقع والبشر. إن وعي الأدباء بهذا الحدث، هو الشرط الأساسي لخلق أي عمل إبداعي. لكن الواقعية الاشتراكية لم تقتصر على أنها تيّار في الأدب، وإنما مدرسة أدبية فنية تنحو إلى السيطرة المطلقة على الأدباء، ومطالبتهم بالتقيّد بتعليماتها، إن لم يكن بأوامرها.
وضع مبادئ هذا النهج الثنائي مكسيم غوركي وأندريه جدانوف. مثّل غوركي الإبداع، وجدانوف الحزب، لكن سرعان ما ظهر الخلاف بينهما في كثير من المفاصل الحسّاسة. بعد فترة تمرّد غوركي، وباتت الواقعية الاشتراكية جهداً مديناً لجدانوف الذي أخذها على عاتقه.
لم يكن جدانوف مثقّفاً حزبيّاً مغموراً، كان مفكّراً سياسياً في الحزب الشيوعي، كما كان عسكرياً ودبلوماسياً، شغل عدة مناصب، فكان حاكم لينينغراد، وأيضاً كان أحد قادة معركتها العسكرية ضدّ النازية، ووزير الدعاية والثقافة. وبعد الحرب، تنبّأ بالصراع بين المعسكرَين الاشتراكي والرأسمالي. غير أن تنظيره في الأدب أكثر ما ارتبط به، فقد امتلك ثقافة موسوعية شاملة، كانت وراء ما أطلق عليه “مبدأ جدانوف” الذي ينصّ على تسخير كل الإمكانات الفنية والإبداعية من فنّ وأدب وموسيقى، لمواجهة الثقافة البرجوازية، تعزّزها الانطلاقة إلى العالم من خلال توفير الدعم اللّامحدود للأحزاب الشيوعية في الخارج، ليسترشد بها أدباء الدول الاشتراكية والعالم الثالث، ما دعا الأوساط الأدبية المناوئة في الغرب، إلى وصف الهجوم الكاسح لطروحاته النقدية والأدبية والفلسفية والفكرية والتاريخية بـ”الكارثة الجدانوفية”، وكانت تيّاراً منافساً في الأدب، وصارت في العالم الاشتراكي من الإضافات المهمّة للأدبيّات الماركسية.
ما بدأ تحيُّزاً ضدّ البرجوازية انتهى انحيازاً للحزب والزعيم
حدّد جدانوف جوهر الواقعية الاشتراكية والمهمّات الماثلة أمام الأدب بأنها “خدمة الشعب وقضية حزب لينين – ستالين وقضيّة الاشتراكية”، ما أتاح له احتكار أهداف الأدب لحساب الحزب والاشتراكية، تُستمدّ من أفكار لينين وستالين، ثم ستالين فقط، مستشهداً به، ومقتبساً منه “إن الكُتّاب السوفييت هُم مهندسو النفس البشرية”، أي كلّ ما له علاقة بالبشر وأفكارهم، إنه زمن صياغة الإنسان من جديد.
دخلت عقيدة جدانوف في مناكفات مع الغرب “ما يجب أن يعلمه كلّ سمج بليد برجوازي، كلّ متفاصح متحذلق برجوازي، يتحدّث عن أدبنا. أجل هو ذاك أدبنا السوفييتي، أدب متحيّز للعمّال والفلاحين وبناء الاشتراكية… ولنا الفخر”.
إن التحيّز في الأدب، حسب جدانوف، ليس قضية فنّ مجرّد وفنّ متحيّز. كلّ فنّان متحيّز شاء أم لم يشأ، وعى أو لم يعِ! إلّا أنّ الفنّان السوفييتي يتحيّز وهو يعلم أنه يتحيّز، ويقصد إلى أن يتحيّز، وقد لا يعلم ولا يقصد، ولكنّه متحيّز.
بيد أن التحيُّز لم يقف عند هذا الحدّ أبداً، فقد أصبح الكاتب متحيّزاً للحزب وللدولة وللزعيم، وفي الدول الأُخرى، خاصة بلدان العالَم الثالث، أصبح الكاتب تابعاً ومتحيّزاً لسياسات الاتحاد السوفييتي، ولروسيا نفسها، والدول الاشتراكية وزعاماتها، وأصبح الأدباء مؤمنين بالمطرقة والمنجل والجرّارات أكثر من حرّية الإنسان.
الجدانوفية، هذا التعبير جرى تداوُله حتى نهاية الخمسينيات، وتم التخلّي عنه بعد وفاة ستالين، وكان الاعتقاد بأنه مات بموته عام 1953، وإذا كان قد نشط ففي بلدان لم تعتقد بعد أن ستالين فارق الحياة، بعدما استعاضت عنه بما يشبهه صناعة محلّية على نحو همجي رديء، طغيانه لا يقلّ عنه.
-
المصدر :
- العربي الجديد