هل الالتزام ممكن اليوم؟ لم يطرح هذا السؤال إلا لأن ما يجري في أرض العرب، يهدد باختفاء العرب أنفسهم، ما يجعل التفكير بعودة الالتزام وارداً، ربما ينقذ المثقفون ما يهدره السياسيون عن سابق تصور وانتهازية وغباء.
في الزمن اليساري كان الجميع ملتزمين بالجملة. وكان من محاسن الثقافة في تلك الأيام، أنه لم يخطر لأحد عدم الالتزام، كان الإقبال عليه كاسحًا، والتنافس على ادعائه شديداً، فلم يتجرأ مثقف على ألا يلتزم، ولو من دون التزام.
كانت الأهداف متفق عليها، الحرية والوحدة والاشتراكية، وكانت على صلة بحركة التحرر الوطني في العالم، فقوى اليسار كانت تنشد التوحد، وتصبو إلى الاشتراكية. أما الحرية، فالتحرر من الاستعمار. كانت مكرسة لهدف، وليست مطلقة، كيفما اتفق، إذ لا حرية لأعداء الشعب، لئلا يأخذ المثقفون جانب الظلم والعبودية والاستعمار والامبريالية. كان الالتزام بهذه الشعارات مفروغًا منه، ولا جدال حوله، الا في التشدد فيها، تبناها الأدب، والتزم بها، وارتاح. بات الطريق في الكتابة واضحًا.
جاء وقت تلاشت فيه القناعة بالالتزام، بعدما ظهر أن الوحدة، والحرية والاشتراكية لا أكثر من شعارات. فلم يعد الالتزام التزاماً. من جانب آخر وهو المهم، كان يقيد حرية الكاتب، فالأدباء أرادوا الكتابة في الجنس إلى حد الاباحية، وعقلنة التفكير في الدين، إلى حد الإلحاد. بينما السياسة بوسعها الانتظار، خاصة أنها تقود إلى السجن وأكثر. مراعاة للسلطة والشعارات، تبين لهم في أجواء من الحرية، ساد فيها التفاهم مع السلطة، أن تجاربهم الأدبية تسمح لهم بممارسة الإباحية والالحاد على الورق، من دون إضرار بالالتزام، ما دام أنه تحول إلى شعار. ويستطيعون أن يكونوا برجوازيين صغارًا أو كبارًا، وألا يخفوا اعجابهم بفرويد وعقدة أوديب، وفي الوقت نفسه التنكر أو عدم التنكر لماركس ولينين، والصراع الطبقي والمادية التاريخية، مع الاستجابة لغرائزهم، من دون التنازل عما طرأ على قصة الالتزام التي نحت إلى العلمانية.
في الواقع، بات الالتزام مثل عدم الالتزام في عالم لا يستقر على حال، كان زمن اضطرابات وقلاقل ومتغيرات وسقوط اشتراكيات، ونظريات وتنظيرات وخلخلة دول، واختراق حدود، وتصدع مبادئ، وموت أيديولوجيات. وإن كان هناك من فكر بعودة الالتزام القديم بعد تجديده على أمل انقاذ ما يمكن إنقاذه من مخالب الغزو الإمبريالي والعدو الصهيوني، لكن كان قد فات الأوان؛ الليبرالية المتوحشة انتصرت في العالم، بينما الالتزام أصبح موضة قديمة، فقيل وكان من قبيل تجديده، وتخفيف وطأته إن المثقف بوسعه النضال تحت راية الالتزام بالإنسان والإنسانية، خاصة أن الأوضاع كانت مواتية، المصطلحات القديمة خرجت من التداول؛ الاشتراكية والأممية والمجتمع الشيوعي، والديالكتيك، والاشتراكية، والكولخوزات. قاموس كامل أصبح مطرودا إلى المتحف، بقيت منه على حياء مصطلحات مثل الشعب، الجماهير، المساواة، العدالة الاجتماعية… فالشعب مثلا ما زال موجوداً، يساق كالنعاج إلى المسيرات، ولا أكثر من أن يكون منضبطًا، وصراخه يهز طمأنينة الأمريكان.
المفاجأة، أن الشعب انتفض، فلم تغفر له الأنظمة الجمهورية قيامته، لماذا ليس الملكية؟ وبادرت إلى مطاردته بالدبابات والطائرات، وكما في رواية خيالية، أحيل الشعب إلى التقاعد، أي من جديد إلى الصمت، أو إلى السجون، ثم إلى الموت تحت التعذيب، ولم يكن في هذا أي خطأ، كان مقصوداً معاقبته، فبعدما رُوض قرابة نصف قرن اندلعت المظاهرات والاحتجاجات في المنطقة التي تأوي عدة دكتاتوريات تتمتع بالهدوء، تجمعها علاقات طيبة مع الغرب، بل ويخطب ودها، ما سيعكر الأجواء بينهما. إذاً لا ثقة بالشعب، ولا أمان منه.
لم يكن غريبا على الغرب الديمقراطي التصرف حسب شعاراتهم في مساندة الشعوب المغلوبة على أمرها، دعاواهم في الحرية والديمقراطية ما زالت شغالة، رفعت لواءها شعوب مغلوبة على أمرها، لكن العقلانية حتمت على الغرب النظر بواقعية، فرأى الفوضى ستعم البلاد.. والمطلوب إيجاد حل ناجع لهذه البلدان التي تحترق وتدمر، قبل أن تذهب الشعوب إلى الفناء. ولم يكن أمام الديمقراطيات سوى الإبقاء على الدكتاتوريات، لماذا؟ كانت غير قابلة للتقويم، ولا للتحسين، فاقترح تبديل الأنظمة بأخرى وربما تعديلها، لكن على نمطها، ربما أقل سوءاً، ماذا لو كانت أكثر سوءاً؟ فاختير تعبير غامض: تغيير سلوكها.
هل يمكن للأنظمة تغيير سلوكها؟ لا تستطيع الشموليات إلا أن تكون على ما كانت، أي كما هي، وإلا فقدت شموليتها البناءة، الأسهل إلغاء الشعب والجماهير والاحتجاج والانتفاضة والثورة… من اللغة، وقمعها على الأرض، صحيح أن الجماهير عادت إلى التواجد، لكن على شكل طوابير أمام الأفران ومحطات الوقود، وسلطة ساهرة ليلا نهاراً تعمل على تنظيم الدور، لن تفكر بالثورة قدر ما ستنصرف إلى ما يقيم أودها. ثم لماذا الثورة؟ ما دام أن الثورة الأم، ثورة أكتوبر الاشتراكية، قد تخلى عنها بلد المنشأ، وانطوت في القرن الماضي. وبالنسبة إلى الانتفاضة،، فمختلسة من الانتفاضة الفلسطينية، وباتت ذكرى. بالتالي قانون القمع كفيل بالاحتجاجات والمظاهرات، مع أنه لن يكون لدي الجماهير الوقت للاحتجاج، اذا كانت تريد البقاء على قيد الحياة، فلتبحث عن المأوى في المخيمات. كذلك الثورة، ليست سوى مغامرة مميتة. أما الالتزام، فالتزام بماذا؟
-
المصدر :
- الناس نيوز