تتعدى خسارة الروائي السوري ممدوح عزام لبيته، ومكتبته الشخصية التي تضم آلاف الكتب، مجرد فقدان أشياء عزيزة عليه، وجزءٍ لصيق بحياته وتاريخه في الأدب، وخصوصية عزلته، وعلاقته بأسرار صنعته. في الجانب نفسه، تعني ثقافة أصابتها طعنة في الصميم، ويمكن تشبيه حريق المكتبة بلا مبالغة بما كانت النازية تقوم به من حرق للكتب في الساحات العامة، وإذا كانت تفوقها، فبالتهوّر. فإذا كان النازيون يحرقون الكتب الممنوعة، أمّا هذا الحريق فأتى على جميع أنواع الكتب دونما تمييز. الطائفية ليس لديها استثناءات.

يصعب الحديث عن الثقافة في هذا الظلام الذي بات دامساً، أكثر من أيّ وقت مضي، فالبلد مقبلٌ على التفتت، والتحريض عليه لا يتوقف. تتأثر الثقافة السورية عموماً بالتشرذم وقلّة التبصّر، والأكثر بما يجري من تحولات، قد تكون انقلاباً، أو ثورة، أو منازعات مسلحة، أو ضغائن طائفية. ويمكن القول إنّ أحد ضحاياها حملة الثقافة، الذين لا يُسمع لهم، طالما أن الثقافة نفسها تأتي على الهامش في معمعة السلاح، مع أن الثقافة هي الأعلى صوتاً، لكنّها مجرد صوت أو أصوات، تتبدّد تحت وقع الانفجارات، الأعلى والأقوى ضجيجاً، ولا مكان للنقاش الهادئ عندما يكون الحوار بالرصاص والمدفعية. أول ما يجري استهدافه الفكر الحر، بالكراهية والأحقاد، وأول ما يجري إسكاتُ الكاتب الحر، الذي لا يزيّف ولا يتجاهل ولا يتواطأ، ولا يكون مطواعاً لأيّ سلطة سوى سلطة الضمير، لهذا لا يُرضي الأطراف المتحاربة، كلّ منها تريد منه أن يتكلم كما يتكلمون، وإلّا أصبح متهماً.

الثقافة مجرد صوت أو أصوات تتبدّد تحت وقع الانفجارات

وهكذا يصبح الكلام مغامرةً محفوفة بالخطر، طالما صيّادو الكلام متربصون لهؤلاء الذين يطلبون الحقيقة، لن يكون الرأي مدمراً إلّا عندما ينخرط المثقف في صراع يجب أن يلعب فيه دوراً عقلانياً، وألّا ينصاع لأجندات أيديولوجية أثبتت أنها لا ترى الواقع إلّا من خلال النظريات والأحزاب، بينما يجب التعامل مع الواقع، حيث تكمن الحقائق، في حال تاهوا، يتعرّض الوطن للانهيار من الداخل، ولن ينقذه إلّا المثقفون، إنهم مناعته الداخلية، سلاحهم التشبث بموقف إنساني وأخلاقي. طالما أن الخلاف بين مواطنين في بلد واحد، وليس تسجيل انتصار أو هزيمة. إنهم إخوة وليسوا أعداء، صحيح أنها أفكار بسيطة، لكنها حقيقة توصلنا لبرّ الأمان، لكن في هذا الزمن، التفكير بالغلبة هو الهدف، لهذا جميعنا خاسرون.

يجب أن ينطلق موقف المثقف من فرضيةٍ واحدة: أن هناك حقائق يجب اكتشافها ومعرفتها، لا يمكن الوصول إليها أو حتى الاقتراب منها، إلّا باعتماد البوصلة التي لا تخطئ، إنها الثقافة المتحرّرة من المصالح الضيقة، هذا ما يمثّل الثقافة في زهو إنسانيتها، ولن يكون الموقف السياسي السليم إلّا بالبناء عليها.

إن ما تعانيه سورية اليوم من انفلات طائفي من أطراف عدّة لا يقل أحدها إجراماً عن الآخر، لن يكون الردّ عليه إلّا بالانحياز للبشر، عندئذ تأخذ السياسة طريقها الصحيح نحو العدالة، وإلّا ضاعت الثقافة بين أقدام قطعان البرابرة من الطرفَين.

ممدوح عزام، واحد من أبرز الممثلين للرواية السورية من خلال مدينته السويداء الجوهرة التي كتَب عنها مراراً، وكانت بكثافة وجودها وتاريخها وروحها ونبض الحياة فيها الوجه الرائع لسورية. أيّ خسارة يُمنى بها هي خسارتنا جميعاً.

نعم، الثقافة السورية ليست في خير؛ الطائفية المسعورة، تهدّد بالنار كلّ ما هو جميل ونبيل في حياتنا. وإذا كان هناك أمل في رأب هذا الصدع الحاصل في داخل السويداء، فهم مثقفو السويداء بالذات.