تعتمد الصحافة الصفراء على الإثارة في سعيها إلى الانتشار السريع والتوزيع الواسع، ما ينعكس على رفع أرقام مبيعاتها، وذلك في بحثها عن الفضائح المالية والجنسية، وافتعال العناوين المبالغ فيها، والتهويل في الأخبار، وعدم الحرج في نقلها من دون تحقق، ولا تدقيق. أما علاقة هذه الصحافة باللون الأصفر فبالمصادفة، كانت الجريدة الرائدة التي استنّت هذا النوع من الصحافة، تطبع على أوراق صفراء رخيصة الثمن، فسُمّيت بالصحافة الصفراء.
الثقافة الصفراء، وتشمل السياسة والفكر والفن، يتشابه الهدف منها مع سابقتها، حيث يسعى أصحابها إلى التلاعب بالحقائق للتأثير في الرأي العام. ما المانع ما دام الطريق سالكاً بينهما اليوم تحت رعاية أنظمة فاسدة، تمنحها الشرعية والانتشار معاً؟ أما اللون الأصفر، فليس تيمّناً باصفرار الورق، بل لارتباطه باللؤم، حسب تعبير أدبي، فالابتسامة الصفراء، تخفي غير ما تظهره، يتستّر اصفرارها على مآربها، فإذا أوحت بالبراءة أو اللامبالاة، فما تخفيه هو السم الزعاف.

وراء الصحافة الصفراء شركات تبغي تحقيق الربح على حساب نشر الغسيل القذر، بينما الثقافة الصفراء وراءها دول تسعى إلى الاستيلاء على عقول الناس وإقناعهم بأن الاستبداد نعمة، والطغيان بركة من السماء، والحروب الوحشية ضرورة لا بد منها للقضاء على الفوضى، وأن السجون والمعتقلات سرّ الأمان.

الثقافة الصفراء أخطر من صحافة الإثارة، وإن كان كلاهما يمتحان من عقلية واحدة، يشعلان معارك لا صلة لها بحرية الرأي، ولا بالوطن، وإن تذرّعت بهما، ومن الطبيعي أن تفرز ما يتلاءم مع ما يستجد من انحطاط، يتبدّى في الاستزلام للسلطة، وظهور المثقف المأجور يسرح على الشاشات، واثقاً من نفسه، مدافعاً عمّا لا يدافَع عنه، بلغة معسولة، تفيض بالثرثرة، وتكديس الكلام، بما يقلب الحقائق إلى أكاذيب، والأكاذيب إلى حقائق. تميزه ابتسامته الصفراء، وتَلَوّن مواقفه ووقاحته الجسورة. فيبرئ القتلة الملوثة أيديهم بالدماء، واللصوص نهابي ثروات الأمة من دون أن يرفّ له جفن.

لا يختصّ المثقف المأجور بالسياسة فقط، إنه أديب أيضاً، يلعب دور القيّم على الأدب والوصي على الأدباء، ويحاول انتزاع مكانة له من خلال إسهامه المجعجع في النشاط الثقافي، ولا يرضى إلا بأرفع المناصب الثقافية، يحضر المهرجانات والمؤتمرات بالواسطة أو حسب التقاص في المنافع. من هذه المنابر يطلق تنظيراته الجسورة، ويوزّع اتهاماته، ويطلق أحكامه على متمرّدي الأدب، يبرّر التهميش ويبارك القمع، دفاعاً عن ماذا؟ عن كل ما يسوّغ الخيانة.

ليس المثقف المأجور عديم موهبة، وإن كان يصرفها على التزلف والنفاق، إسهاماته متواضعة، ولا ينقصها التهويل، مهما كانت تافهة. مطمئن إلى أن تكاثر المريدين والمطبّلين سيضعه مع الزمن فوق النقد، ولن يجوز عليه إلا الثناء. هاجسه المناصب والسلطة، وإن كان مجال ممارستها محدوداً، وما يفلح به هو جعل الحياة أكثر بؤساً، والأدب أكثر انحطاطاً.