تشهد سوق القراءة في العالم حركة نشر نشطة، لا تهدأ منذ عقود، ازدهرت في الفترة الأخيرة تحت ضغوط كورونا والحجر الصحّي، لم تستثنِ بلداً في الغرب، وتتمدّد إلى بلداننا، فقراءة الروايات تشهد إقبالاً جيّداً، مع إقبال بات يضارعه على الكتب التي تتناول سِيَر حياة الكتّاب والفنّانين والسياسيّين، ورجال الأعمال المشهورين، وأصحاب المهن المتميّزة في العالم الافتراضي، وتلك التي تجلب الثراء بسرعة صاروخية كالمضاربين في البورصة، كذلك المحتالين الدوليّين، وأيضاً أصحاب الأعمال العادية، كالبرمجة والتمريض والطبخ، ومعهم المغمورون كالباعة وعمّال المقاهي والفنادق… حركة مبيعات الكتب، دلّت على رغبة الناس في الاطلاع عن قرب وفي الصميم على حيوات الآخرين؛ المشهورة وعديمة الشهرة، وربما غير المعروفة، ليس من خلال الرواية والسينما، بل من خلال وقائع حياتهم اليومية.

وإذا كانت سير السياسيّين تستدرج الجدل لعلاقتها بالأحداث السياسية المعاصرة، والمثير فيها مناوراتهم السرية، وفضائحهم الجنسية، وولوغهم بالفساد من رشاوى وتجارة مخدّرات واغتيالات… والتركيز على خياراتهم السياسية التي أدّت بهم إلى قرارات خاطئة، اتخذوها إبان وجودهم في مناصبهم الرسمية.

ففي روسيا على سبيل المثال، مع بداية عودتها دولةً شمولية ذات طابع مافياوي، وما صدر من قرارات عن الكرملين عبثت بمصائر شعوب، آخرها التدخّل في سورية لحماية النظام من السقوط، والترحيب الذي قوبل فيه من الكثير من الدوائر الروسية. ندعها حالياً لمن سيكتب مذكّراته بعد عقود لتظهر حقائق هذا الاستعمار الجديد، بينما الآن تُكتب المذكرات التي تشيد ببطولات الحرب العالمية الثانية، واستعادة سياسات رجال الدولة القيصرية، وعمليات “كي جي بي” الذكية، مع انتشار انتقادات للبلشفي لينين، ومديح للطاغية الرفيق ستالين.

” يرفع كتّاب السيَر منسوب الإثارة تجاوباً مع مفاهيم كل عصر”

لا تقل سير الأدباء والفنانين إثارة، في حال كانت علاقتهم بالفضائح أوثق، فالميل لديهم نحو غير المألوف، جعلهم منبعاً خصباً للكتابة عنهم كأشخاص لديهم من غريب الطبائع ما أهّلهم من قبل للجنون، بينما حالياً، في هذه الحقبة التي تسترجعهم من الماضي، فالتجديد الذي طرأ عليهم، يستجيب لارتفاع رايات المثلية.

وليس هذا من غرائب النشر، فكتّاب السيَر يرفعون منسوب الإثارة تجاوباً مع مفاهيم كل عصر. فكان تصنيف الكُتّاب مع المد الاشتراكي في العالم، إلى رجعي وتقدُّمي، ومع تصاعد الحرب الباردة، إلى عميل أميركي وعميل روسي. وبعد سقوط جدار برلين، إلى ديمقراطي وشمولي. أخيراً، في عصر الحريات الجنسية، أُحيل الكتّاب والكاتبات إلى التصنيف الجنسي، مثليّ وعادي. وليس إلى مثليّ وطبيعي، فأن تكون طبيعياً يعني أنَّ المثليّ غير طبيعي، فيها من العنصرية ما يحيله إلى جنس أدنى.

في استثمار هذا التصنيف الجندري، يسارع كُتّاب السيَر إلى إثبات أنّ مشاهير الكتّاب والكاتبات كانوا من المثليّين، سواء عن شبهة أو من دونها، ما يغفر لهم ربما خطاياهم، أو يمنحهم امتيازاً على غيرهم، فاضطهاد مثلية المشاهير من قبل، يدفع إلى التعويض عنها برفع مستوى نجوميتهم عن الآخرين العاديّين، ما يجاري النزعة التي اجتاحت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، لتطهير سمعة شعوبها من إرسال اليهود إلى الهولوكوست، والتخلّص من الشعور بالذنب، فجرى رفع مستوى الاعتراف بعبقرية الثلاثي ماركس وفرويد وأينشتاين، لكونهم يهوداً، دونما الالتفات المعادل والمنصف لإنجازاتهم الكبرى والمفصلية في العلوم والاجتماع، وهكذا لم يتجرّأوا على انتقاد المنجز الماركسي والفرويدي إلّا بعد عقود.

هذه التصنيفات كان الهدف منها عدم التمييز بين البشر، فإذا بها تصبح عامل مفاضلة، لا تخلو من عنصرية، وذلك بتكريس الذكاء والفن لنوع من البشر على حساب غيرهم، كما استُخدمت لتغطية جرائم مثلما جرى في فلسطين، وكأنَّ العبقرية تبيح الاستيطان، مع أنَّ العباقرة الثلاثة كان لهم رأي سلبي في قيام “إسرائيل”، ومعارض لإنشاء دولة على حساب شعب آخر.

أفضل ما فعلته الإنسانية على مر العصور، كان في تصنيف البشر إلى أخيار وأشرار، مع الكثير من المرونة، بحيث لا يكون نهائياً بوجود اللون الرمادي. وكان في الكشف عن الشر، ما يهيب بالأخيار التصدّي له سواء كانوا يهوداً أو غير يهود، مثليّين أو من النوع العادي جداً. فإذا كانت البشرية لا تميّز بين الأعراق والأجناس، فأي تمييز سيكون مبتدعاً وتعدياً على المساواة المطلقة بين البشر.