“هناك دائما قصّتان: القصّة الرسمية الملفَّقة، والقصّة السرّية حيث تكمن الأسباب الحقيقية للأحداث”. هذا قول مشهور للروائي الفرنسي فورييه دوبلاك، يُشكّل سنداً للكثير من الدعاوى الحقيقية وربما الادعاءات المغلوطة، وقد يصحّ لإدراك بعض الحقائق التي قد تغيب عنّا، أو إعادة النظر فيها. وبما أنّ القصة السرية غالباً ما تبقى أسيرة لزمن لا يمكن تقديره، فيُخشى ألّا نعلم بالحقيقة لوقت يطول، إن لم نعلم بها أبداً.

في عصرنا الذي تعجّ فيه وسائل الإعلام والقنوات الفضائية، يُعتقد أنّ القصص الملفَّقة لم يعد لها وجود، فالصحافة التي تطوّرت وسائلها لم تدع ما يخفى عليها، وفضحت المستور. لكن في الوقت نفسه تطوّرت القدرة على صناعة الحقائق الكاذبة، من أخبار وأحداث موثّقة بصوَر وأفلام زائفة.

يمكن القول إنّ التلفيق هو السائد في عصرنا، فغزو العراق كان بناءً على وجود أسلحة الدمار الشامل، كذلك غزو أفغانستان من قبل الروس، فالأميركان، وكان من نتائجها احتلال بلد بناء على ذرائع ملفّقة، كما لا تُستثنى الانقلابات العربية، لم تكن لتحرير فلسطين، كانت استيلاءً على السلطة بالقوّة، وتنصيب ضابط سرعان ما يصبح دكتاتوراً. كذلك الربيع العربي المصري والسوري، لم يكن الإرهاب إلّا صناعة الأنظمة للقضاء عليه، بينما الحرب الأوكرانية الدائرة اليوم، ليست من أجل الأمن القومي الروسي، بقدر ما هي خطوة على طريق استعادة الإمبراطورية القيصرية البلشفية.

في هذا العصر، مهما أحسنّا الظن، فلن نعرف غالباً سوى تلك القصّة الرسمية الملفَّقة تُروّجها وسائل الإعلام عن أحداث يبرهن عليها ما نراه مفبركاً على الشاشات، ونجهل ما يدور خفيةً في الكواليس الدبلوماسية والمخابراتية والاجتماعات المغلقة، يجري التكتم عليها، ريثما تقبع في خزائن القصص السرية.

لا يتّسع الوقت لإمعان النظر إلى الأخبار لفرط تسارُعها

هذا ما يحدث، على الرغم من انتشار وسائل التواصل، وأيضاً رغم متابعة ما يجري على مدار الساعة، من أخبار تتسارع على وقع الأحداث، وغالباً من فرط تسارُعها لا يتّسع الوقت لإمعان النظر إليها، وإدراك ما يتوارى خلفها، لذلك كثيراً ما تُفاجئنا أحداثٌ غير متوقّعة على الإطلاق، بينما المفترض ألّا تفاجئنا، لو أنّنا كنّا على اطلاع فعلاً بما دار بشأنها، فالمفاجأة ليست مفاجأةً إلّا لأنّنا نجهل ما سبقها، وإذا تسرّب ما يوحي بها، فمصيرها الإنكار، خاصّة أنّ التحليلات المؤيّدة ترافقها، وفي حال تعدّدت وجهات النظر، تضيع الحقيقة بين أكوام من التضليل، هذا إذا كانت هناك حقيقة.

أمّا الشائعات عمّا يمارَس في الخفاء، فتُدحَض بمنتهى البساطة، بشائعة بديلة، لها حرّاسها، هذه المرّة تُحكِم الجهة التي أطلقتها ترويجها، فلا تعود شائعة، بل حقيقة، صُمّمت على أن تكون الوحيدة، يصعب أن ينال منها دليل مضاد، وفي حال مرّ عليها الزمن تُصبح بحكم الحقيقة المطلقة، وقد تصبح مرجعية، ويُبنى عليها نتائج وأحكام، أمّا من يحاول الكشف عنها، فلا تهاوُن معه، قد يختفي مع الحقيقة، ولا يبقى منه سوى شائعة.

ربما انكشفت بعض الحقائق في مذكّرات الرؤساء والقادة والسياسيّين، مهما بلغت الصراحة فيها، فلن يدين سياسيٌّ منجزاته، وإذا اعترف بأخطائه، فلديه المبرّرات، مع ذلك يُرجَع إلى هذه المذكرات، حسب ظنّنا، لاحتوائها على حقائق لم تكن معروفة في حينها، بينما تكون قد أضافت تعمية على تعمية، فالحقائق مشبوهة، حتى لو جرى تفنيدها، تبقى عالقة بين الأخذ والرد، ولا يمكن البتّ فيها، إلّا في حال انكشف ما يخالفها بعد سنوات طويلة. أحياناً لدى السماح بنشر وثائق الدولة، أو محاضر اجتماعات ترقد في المستودعات، قد تُدفن هناك، إن لم يأت باحث ويطّلع عليها، عموماً، قد نحصل على ما يرمّم حدثاً ما، لكن بعد مُدد طويلة قد تمتد إلى عقود، بعدما تمسي في حظيرة التاريخ. هل في إحالتها إليه ما يتيح لنا الاطمئنان إلى أننا سنحصل على الحقيقة، إن لم يكن لنا، فللقادمين من بعدنا؟

هذا ما يجعلنا نتصوّر أن التاريخ عبارة عن مسرح خليط من الحقائق وأنصاف الحقائق، وبين ما هو ملفَّق وكاذب وزائف، هذا إذا اعتقدنا، أو داخلنا الشك في أنّ القصص الحقيقية مجهولة، أو محجوبة، لا يمكن الوثوق بها إن لم يجر تدقيقها، لكن ليس من السهل الكشف عنها، لمضي الزمن عليها، إلّا بجهود المؤرّخين، ولا نغامر إذ نقول إنها أشبه بالبحث الجنائي، كما لو هناك جريمة قتل، أو سرقة ارتُكبت، وما على المؤرّخ إلّا البحث عن الفاعل.

بالمقابل، حتى التاريخ المستقرّ، لا ينجو من الاتهامات، خاصّة أنّ هناك من جعلوها مهنة في القنوات الفضائية، تعتمد على استثماره في نزعة الشك المحمودة، ليعيدوا الكرة، وينحازوا إلى تفنيده، وشنّ الحرب عليه، وكأن وسائل الإعلام، وسائل تجهيل وتضليل. وهكذا من الممكن تصوُّر لماذا يتقدّم العالم نحو الهاوية.

إذا كانت الحقائق تُزوَّر على وقع التلفيق والأكاذيب، فلن تكون الحصيلة سوى الحروب والدكتاتوريات.