تعني فكرة التقدّم تطوّر الإنسانية، بحيث تنعكس على الشعوب بتحسين طرائق العيش والتفكير والعمل. غير أنها خصت الغرب وحده بالتقدّم المبارك بالعلم؛ ما جعل الفكرة نفسها عامل احتقار للشعوب الفقيرة أو المفقرة، بذريعة أنها لم تشهد تحولات كبرى على المستوى التاريخي، أو تشارك فيها.
فهي لم تتعد مثلاً المرحلة الإقطاعية، وربما البدائية، ولم تعرف الفترة الرأسمالية، أو تخض حرباً ضد النازية والفاشية والستالينية، لم تعرف الحرب الباردة، أو تُسقط الشيوعية، وإن كان قدرها أن تُخاض الصراعات فوق أراضيها، وأن تكون من ضحاياها.
كما لم تسهم بالثورات العلمية، آخرها ثورة الاتصالات، وإن جرى استنزاف الثروات العقلية لهذه الشعوب لصالح شعوب أخرى، وتُركت مسلوبة الإرادة لأقدار حروبها القبلية ونزاعاتها الدينية والمذهبية، كلما حاولت التقدم خطوة ارتدت قروناً إلى الخلف. أمراض الماضي لا تتيح لها سوى التقدّم المميت نحو القبر، فكان من الطبيعي ألا تنعم ببركات الحضارة، ولا تعاني إلا من ويلاتها.
” باتت الحضارة تفرز شروراً تفوق توجهاتها وطاقتها على فعل الخير”
استبعد الغرب أن تواكب “الشعوب المتخلفة” تقدّمها العملاق، إلى حد أنه أشعرها بأن الفارق بينهما هائلاً، يستحيل اللحاق به، فهو يتقدم بسرعة الصاروخ، بينما الشعوب السوداء، ومعها الشعوب “المتخلفة” و”المتديّنة”، تزحف ببطء السلحفاة. ما خلّف لديها عقدة ذنب، لا براء منها كما يبدو.
بهذا التصنيف انقسم العالم الى عالمين لن يكونا معاً في رحلة المستقبل. وبما أن هناك عالماً مرشحاً للموت، فقد رُشّح أيضاً ليكون حقلاً لتجارب أسلحة الغرب الفتاكة، والخطوط الأمامية لصراعاته مع الشرق الروسي والقادم الصيني… وللتآكل بفعل آفاته الداخلية.
اتجاه تقدم الحضارة الغربية نحو المستقبل، إنما هو تقدم نحو زمن غير مرئي، ولكي يكون بالوسع تصوّره، يستحيل أن يكون، مهما طال الوقت، مختصاً بشعوب دون أخرى، فهذا الكوكب ليس بقعاً منعزلة عن بعضها بعضاً، والحضارة الساعية الى التميّز عن غيرها، تمارس أنانية ضيقة الأفق وقصيرة العمر، تكبد البشر خسائر فادحة من إنسانيتها.
يُعتقد أن حركة التقدم في الزمان، هي السير إلى الأمام، ويُعتقد أنها تتجه نحو وضع مثالي، سيتحقق؛ لكنه قد لا يتحقق أبداً، ما دام التنافس الأحمق عنوان البقاء على قيد الحياة. بينما التعاون والتكافل والتعاضد هو سرّ التقدم وحقيقته الدامغة.
في الواقع لا تسير الحضارة الإنسانية في خط صاعد ولا مستقيم، وفي حال سقطت البشرية في الامتحان الأخلاقي، فالفناء نصيبها. المطلوب وضع تصور لأخلاق تواكب التطور الواعي، لئلا يرتد إلى عكسه، فالحضارة باتت تفرز شروراً تفوق توجهاتها وطاقتها على فعل الخير، وما يقدّمه العلم لا يمنح الحرية والرفاهية بقدر ما يؤدي إلى الظلم والفساد والتفسخ، إذ طاقته التدميرية هي الأقدر على التحقق.
ما يبشر ببدء دورة من الصراعات مصحوبة بانحطاط قيمي، بحيث يبدو أن العقل الذي كان وراء فكرة التقدّم في البداية هو نفسه الذي سيؤدي إلى تدهورها.
-
المصدر :
- العربي الجديد