يتذرع كتاب الرواية والمسرح والمسلسلات الدرامية بأن شخصيات نصوصهم تعبر عن نفسها، وليس المؤلف مسؤولاً عما تتفوه به من آراء. بل قد يفصل نفسه عنها، إلى الحد الذي يزعم فيه أن شخصياته تكتب أحوالها، ولا سطوة له عليها، وهو مجرد ناطق باسمها. لن نذهب إلى الحد الأقصى، نعتقد أن الروائي يهيمن على شخصياته، لكنه يترك لها المجال لتعبر عن نفسها، أما عن الحرية التي يمنحها لها، فتختلف من روائي لآخر، أحياناً تنتزع الشخصيات الحرية انتزاعاً رغماً عن الكاتب.

زمن تقويل الشخصيات بما نرغب ونريد، مضى عهده مع الايديولوجيات الشمولية، وإذا كان لها ردة، فسوف تستعيد الكتابة الموجهة قواها مع عودتها، أو مع ما يشابهها إذا كان لها من مشابه، إذ مثلما تختفي تظهر، مع بعض التعديلات، للأسوأ ربما.
على هذا النسق، تعمل ايديولوجيات الشر والخير وصراع الطبقات، وصرعات الغثيان الأوربية. مساهمة في هذا المضمار، احتفى الأدب بالأبطال الطيبين والخيريّين في الروايات التهذيبية والتعليمية، وبالنزاهة الثورية للبطل الاشتراكي في روايات الواقعية الستالينية، وبالأبطال اللامبالين العبثيين إبان تدفق الموجة الوجودية، وعلا شأن الملحد الشيطاني، في غمار انفلات النزوات، حتى اصبح البطل الفاوستي من فرط تحلله عالة على الإلحاد والشيطان معاً.

في أوقاتنا هذه المرشحة لعودة تمت بصلة إلى التدين والتمذهب؛ تبدو أدياننا ومذاهبنا المغبونة بحق، قد تركت لمن يستثمرها في التحريض على التقاتل، فأثبتت وبسرعة قياسية قدرتها كسلاح مميت تصدر ساحات الصراع العربية، وجرى تحت ظلالها تجييش المؤمنين بها، بموجب حجج مضى عليها ما يزيد على ألف سنة، لم تنته صلاحيتها، وأمكن استخدامها في الدفاع عن الأضرحة بالخناجر والرصاص والمتفجرات. المثير، والخارج عن العقل والايمان، انها غدت شعاراً سرياً في حرب باتت اقليمية ولها امتدادات دولية، ويبدو مع الوقت، أنه ستصدق رؤيا النظام، وتمسي حرباً كونية.
هل بقي لهذه الحرب شيء لم تبتدعه؟

تشبه هذه الحالة، الكاتب مع شخصياته، عندما يفقد السيطرة عليها، وتفلت الرواية من رقابته، لتأخذ مساراً آخر، لينطلق أبطاله في رحاب العالم الروائي يمارسون كل ما امتنع عليهم في عالم الواقع. غير أن الواقع تفوق على الرواية، إذ ابحر في مستنقعات الدم والدمار، وفي كل ما نعجز عن تصوره في تفانين القتل. فالمظاهرات التي عمت سورية طوال ستة اشهر 2011 وعرفت بالسلمية، ووجهت بالعنف الذي غير مسيرتها، تحت تأثير الأجهزة الأمنية التي لعبت دور المؤلف ضيق الأفق، لحل اشكال كان صغيراً، ثم توسع وفاق حجم الوطن، وهدد الدول المجاورة. ولم يعد بالوسع إعادته إلى القمقم الذي خرج منه، بعد أن عرف المتمردون طعم الحرية، ولو كان ثمنها الاعتقال، والايداع في السجن، والموت تحت التعذيب، والاعدام الميداني، عدا أن الرواية التي سار فيها النظام أشواطاً إلى الأمام، تكاثر عليها المؤلفون، وكل منهم يفكر بنهاية مختلفة، لرواية باتت غارقة في الفوضى، ومحكمة الانسداد.

وإذا كنا ما نزال نفكر بأسلوب روائي، فلا بد من سورية كبطل أوحد، يعيد الرواية إلى مسارها. ولن يصح هذا، إلا بأن يفكر السوريون بروايتهم، هذا اذا أرادوا أن تضمهم رواية واحدة، والبقاء فيها، وإعادة النظر بسردياتها، لا تزويرها والعبث فيها، لايجب أن يغفروا لأنفسهم ما فعلوه على مدار أكثر من أربعين سنة، بل أن يدركوا عظم اثم من الصعب تجاوزه أو نسيانه والمرور به، كأنه حدث عابر، من دون أن يواجهوه، ويفكروا في هذا الكم الهائل من الضحايا الذين دفعوا ثمن حرية لم يظفروا بها، وربما لن ينعم بها أولادهم، فيما إذا لم ينقذ السوريون بلدهم من روايات التاريخ منبع الخصومات والأحقاد والذرائع.