فعل التحرش، ليس حديث النشأة، إنه قديم قدم وجود المرأة والرجل على الأرض، وغالباً ما اتسم بالعنف، قد يكتفى بالملامسات السطحية، أو يتعداها مترافقاً مع القسوة، ولا يعدم الوحشية.
في العصور الحديثة، أكسبته مفاهيم التحرّر تضليلاً، وشاب العلاقة بين الرجل والمرأة شيء من الخداع والتغرير، لا سيما في مجالات مفعمة بالإثارة والأضواء. ففي مجال كعالم السينما أصبح على سوية تتناسب مع عالم يلعب فيه التوق إلى الشهرة، عامل إغراء، فالساعون إليها لا يتحرّجون من انتهاز الفرص، والذين في وسعهم إيصالهم إلى النجومية، يثمنونها باستغلالهن جنسياً.

قبل عقود قالت ممثلة إيطالية شهيرة إن الرغبة العارمة في التمثيل مع مخرج عظيم برفقة ممثلين عالميين، قد يدفعها إلى الارتماء في أحضان المنتج أو المخرج؛ لا بأس إنها تضحية في سبيل الفن. لكن الفعل يبقى مداناً، ولو كان تحت رعاية الفن السابع.

جديدُ ما طرأ، انتشار اعترافات جريئة لنساء مشهورات تعرّضن إلى التحرش، أو إلى الاغتصاب بالقوة. تدفقت على إثرها اعترافات لأخريات، بدا كأنها أصبحت من قبيل التقليعة، تجلب الشهرة، وعودة إلى الأضواء، أو تبرير انتكاسة مسيرة سينمائية سابقة. فالجرأة تسقط عن الفعل الجنسي الفاضح، ما يسيء إلى الضحية، ويحيله إلى جريمة بحتة، تُسقط عنها خطيئة أجبرت عليها.

” ثمة بقعة غائمة يرزح تحتها الغرب والشرق، تسمح بمفاهيم ملتبسة”

لم يتوقف هذا الفعل الشائن عند عالم السينما، فقد تمدد إلى عالم السياسة، فأسقط سياسيين مخضرمين ورجال دولة كباراً ذهبوا ضحية نزواتهم، وسياسيين واعدين قضي على مستقبلهم السياسي. هذه الحوادث ليست جديدة، ففي الماضي القريب، كانت المخابرات المعادية تدسّ امرأة في حياة وزير، لتتفجر بعدها فضيحة تدفعه إلى الاستقالة.

يخيل للبعض أن التحرش في الغرب لا يقارن مع مثيله في منطقتنا، ففي الغرب هيأت المساواة بين الرجل والمرأة، والاختلاط في العمل، الظروف الملائمة للتحرش، فالمرأة اقتحمت: عالم الفنون، الوظائف الحكومية، الجيش، الأزياء، الطب، العلم… بينما في الشرق لا يتمتع الرجل بهذه الفرص السانحة التي توفرها المساواة، فحافظ التحرش على سرّيته، وبات من المسكوت عنه، كأن لا وجود له. وإن أوحى بأن مرتكبيه المجرمون والمختلون عقلياً، لا الرجال المشهورين والمحترمين. فنحن نعيش في مجتمعات محافظة يحكمها التكتم والخوف من الفضيحة، وقانون الشرف يحول الضحية إلى أضحية.

قد يحيلنا ارتفاع منسوب التحرش في الغرب إلى أنه من ضرائب التقدم الحضاري، وأن الشرق بتخلّفه متقدم أخلاقياً، لكنه الفارق بين مجتمع يكشف عن عوراته، ومجتمع يحكمه قانون الحياء، ليس لأنه الأكثر احتراماً للمرأة، وإنما لأن المرأة ملكية الرجل، فلا اعتراف خشية العار.

ثمة بقعة غائمة يرزح تحتها الغرب والشرق، تسمح بمفاهيم ملتبسة، لكن لا خلاف؛ الأخلاق في انحدار، فإذا كان التحرّش في الغرب فعلاً شنيعاً، يصعب السيطرة عليه، ففي الشرق، الأشد شناعة ما يخفيه خلفه.