تدور أكثر من حرب في العالم، لكل قارّة ومنطقة حصتها. وإذا كانت الحرب في أوكرانيا قد أخذت دويّاً هائلاً، فقد أخذت بالتراجع ليس على الأرض، وإنما في الإعلام، فالعمليات الحربية بمختلف أنواع الأسلحة، ما زالت جارية، وإن كانت تشتدّ وتخفت، لم تصل إلى نهاية ولا هدنة، في انتظار ضغوط أميركية على أوكرانيا تتمثل بالتلكؤ بتزويدها بالسلاح والذخائر، وهو ما بدأت بالعمل عليه، إن لم يكن للتفاوض، فالحرب مستمرّة إلى إشعار آخر، فالعجز عن إيقافها واضح.

الأنظار تتوجه إلى “الشرق الأوسط”، حرب غزّة اختطفت الأضواء بالضحايا والدماء والخراب، أميركا تشارك فيها إلى جانب “إسرائيل” بالقتل والأكاذيب. لكن هناك حرب أُخرى، تُخاض في مختلف بلاد العالم، تتركز خصوصاً في أميركا وأوروبا على التوازي مع غزّة وضدها، تتركز في احتجاجات الشوارع، والجامعات ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام، حرب تغيظ الحكومات الغربية، فوجئت بكثافتها وعلى عدة جبهات، بعدما كرّست طوال خمس وسبعين سنة مناخاً مواتياً لـ “إسرائيل” كدولة لديها الحق لتستبيح الأرض الفلسطينية ودول الجوار، إنها فوق القانون. اليوم تتعرض في العالم لتساؤلات أخلاقية وإنسانية. كان الرد عليها، التأكيد على أن انتقاد سياسات “إسرائيل”، يُعتبر ضد السامية، ما يعاقب عليه القانون، لكن أي قانون؟ طبعاً، القوانين التي يُلوَّح بها كيفما اتفق، لئلا تحاسَب على مجازرها في غزّة.

تخويف الداعين لوقف العدوان بشعار “معاداة السامية”

لا يوجد قانون يمنع انتقاد سياسات “إسرائيل” ولا السياسة الأميركية. لكن من خلال التلاعب بتفسير معاداة السامية، يُرفع اليوم عالياً كسلاح يسعى إلى تخويف وإسكات الداعين إلى وقف إطلاق النار في غزّة. هذا ما استدعى من جهات ثقافية اعتباره مثيراً للقلق بشأن حرية التعبير، ويهدّد بتكميم الأفواه.

يقف وراء هذا الاتجاه القمعي، وفي المقدمة ذوو النفوذ السياسي واليمين العنصري وأعضاء مؤثّرون في “الكونغرس” ورجال أعمال مليارديرات، في حركة شاملة تستهدف جامعات عريقة وطلّاباً وأعضاء هيئة التدريس وصحافيين ومفكّرين. ما يؤدّي إلى طردهم من العمل، وينعكس على الطلبة المتخرجين بتقليل فرص العمل، وتهديد الذين لم يتخرجوا بعد، واتهام الجامعات أنها تعمل على تربية أجيال جديدة، يجهلون تاريخ بلادهم والعالم، لم يعيشوا أهوال “الهولوكوست”، ولا الحربين العالميتين إلّا من أفلام هوليوود، أو يحاربوا الشيوعية، ولم يشهدوا سقوط جدار برلين، وربما لم يهتموا بتفجير برجَي التجارة في نيويورك. معارفهم لا تتعدّى ما يطّلعون عليه في وسائل التواصل، فلا يرون في غزّة إلّا أنها محتلّة، والقتلى بالآلاف، لا سيما الأطفال والنساء، الدماء تسيل في شوارع سُوّيت بالأرض، ولا يعرفون أنّ المنظّمات “الإرهابية” الفلسطينية كانت السبب في خراب غزّة.

هؤلاء الشبّان يقودون حملات المقاطعة على شركات “ستاربكس” و”زارا” و”كارفور” و”ماكدونالد” وغيرها، ويشنون الحملات على اللوبيات اليهودية والسياسية، والإدارة الأميركية التي تموّل من ضرائبهم مساعداتها لـ “إسرائيل” بالمليارات. هؤلاء الشبان يحتلون الشوارع ويقتحمون القاعات بتحريض من باحثين ومفكّرين، فينتقدون “إسرائيل” بجرأة، ويطالبون بالعدالة للفلسطينيين، يؤازرهم يهود، لا يقلّون جرأة عنهم في التأكيد على أنه لا يوجد تقليد في اليهودية أكثر من قول الحقيقة، ولا ضرورة أشدّ إلحاحاً من الشجاعة في انتقاد القيادات السياسية الفاسدة.

حربٌ تشترك فيها “إسرائيل” وأميركا بالقتل والأكاذيب

لم يقتصر هذا الاتجاه على أميركا، بل امتدّ إلى أوروبا، التي سرعان ما عملت على إنتاج مكارثية على النمط الأميركي، لكبح الأجيال الجديدة التي تضم جاليات عربية، خُدعت بفرنسا على أنها بلد الجمهورية وأرض حقوق الإنسان ومهد الثورة الفرنسية وحقوق الإنسان و”الكومونة”، وثورة شباب 68. أصدر وزير الداخلية، بالتعاون مع وزير العدل، قرارات عاجلة، تمنع أي تظاهرة مؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني؛ لكن المظاهرات خرجت بالرغم من القرار، ولم ينجح السعي لتطويقها. تعدّدت مظاهر القمع والإنكار الفرنسي، لكن لم يكن من الممكن تصوّر أن دار النشر “فايارد” الفرنسية العريقة، تسحب من التداول كتاب المؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابيه “التطهير العرقي في فلسطين”، بعدما ارتفعت مبيعاته عقب السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بذريعة أن العقد مع الكاتب انتهى، كما لم يعد غريباً اتهام مجلّة “لوبوان” الفرنسية بأن الفلسطينيّين مهووسون في التأثير بطلاب الجامعات الفرنسية، الذين يصرخون: “فلتسقط الإمبريالية”؛ حين يتعلّق السلاح بدعم “إسرائيل”.

أما في بريطانيا، بلد الديمقراطية والدستور الأقدم، فقد كان ردّ الفعل على المظاهرات صاعقاً في الاتهامات التي كالتها وزيرة الداخلية، ووصفت المتظاهرين بالدهماء الذين يبثّون الكراهية ويفتعلون الشغب، حتى أنّ رئيس الوزراء المنحاز كلّيةً لـ”إسرائيل”، اضطرّ إلى إقالتها، لكنه لم يوفّر الهيئات التعليمية من الاتهام بالإعراب عن آراء متطرّفة حول الحرب في غزّة، أعقبها استقالات احتجاجاً على خنق حريات التعبير. بينما في ألمانيا تأخذ المكارثية صيغة إجبار المتقدمين للحصول على الجنسية، وأغلبهم من العرب، بالاعتراف بحقّ “إسرائيل” في الوجود، وإلّا حُرموا من الجنسية، والالتزام بالسياق السياسي الألماني في إعلان الدعم المطلق لـ”إسرائيل”.

وسوف تبلغ المكارثية حدود المهزلة والفانتازيا مع أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، التي اعتبرت هجمات الروس في أوكرانيا ضدّ البنية التحتية المدنية، خاصة قطع الكهرباء والماء، أفعال إرهاب صريح وجريمة حرب. أمّا عندما مارست “إسرائيل” هذه الأفعال نفسها بشكل أكثر وحشية وهمجية، فاعتبرتها المفوضة دفاعاً عن النفس، ولا تشير إلى إرهاب ولا انتهاكات فاضحة.

لا يمكن تلخيص ما يجري على السطح، إلا بمعرفة ما يدور في دهاليز الاجتماعات المغلقة: “نحن نعلم أنّ معاداة السامية ومعاداة الصهيونية ليسا متماثلين، لكن هذا ما تريده الدولة والجامعة والمانحون واللوبيّات والشركات الكُبرى سماعه، لذلك نحن مضطرّون”.

المطلوب تعليم الأجيال الجديدة الصمت، لكنهم يتعلّمون وحدهم، فالمعرفة مبذولة، ووسائل الكشف عن الحقائق متوافرة. لا تتطلّب إلا البحث عنها، وسوف يجدونها، لن يخطئوا الطريق إلى الإنسانية والقانون والعدالة. يتمتّع الجيل الجديد بحرية، لا تتمتع بها دول ولا حكومات ولا سياسيون، إنهم قادة أنفسهم.