الزمن الذي اعتبر فيه الأدب لا يزيد عن عوالم افتراضية، توارى في الماضي. بات الأدب، خصوصا الرواية، مدخلاً للتعرّف إلى الواقع، وما حداثة هذه النظرة إلا لأن الوعي بها أصبح محسوساً ومدركاً. فالرواية لا تزيد معرفتنا بأنفسنا والآخرين فقط، بل بالواقع المتغير سواء كان في النظر إلى الماضي أو الحاضر، وفي تطلعها إلى المستقبل.
تضاؤل الواقع، يعني تضاؤل الرواية.

إذا امتحنا الروايات الغرائبية، سواء المحلّقة فوق العالم أو المنغمسة فيه، فليس أكثر من النظر إلى الحياة من زاوية تتعمد الإدهاش، لا ينسحب منها الواقع، مهما سبحت في الخيال، إنه بطانة المرئي العجيب. كذلك الروايات الرومانسية، مهما استغرقتنا عوالمها، ترتد بنا إلى نقيضها، ليس للدفاع عنه، بل لإدانة واقع لا يخفي بؤسه.ما دمنا في هذا العالم، فلا مهرب منه.

أسبغ ماركيز السحر في رواياته على الواقع، وغاص فيه، أفلت العيار لكليهما معاً. فاستمدت مشهديات الحروب والدكتاتورية والعشق والموت كثافتها من التنويعات المروّعة للحياة. فتعرفنا إلى الدكتاتورية في غطرستها وانحطاطها وبشاعتها واستهانتها بالبشر، وتجلّى العشق والوله أخاذاً في فتنته. أما الحروب، فأظهر وحشيتها وهمجيتها القصوى، وانكشفت مستقوية بالسحر الروائي.

” سبر الحقيقة يكمن في إبطال مفعول التقليعة العابرة”

تنحو أية أسلوبية روائية في تجديداتها ومغامراتها إلى النفاذ في العمق، ومن الخطأ النظر اليها في حال تطرفها على أنها تلامسه برصده فوتوغرافياً، إنما هي محاولات متتالية للقبض عليه، والسعي إلى الإحاطة به. أما الإخفاق، أو عدم التمكن منه، فدافع نحو المزيد من المغامرة باتجاهه.

الواقع كتيم ومخاتل، والرواية هي الجنس الأكثر صلاحية لاختراقه، ولو كان ما يستجد من جديد، يخدعنا بادعاءات التحرر، سواء بالدعاية، أو الإدمان على الاستهلاك، ورواج تجارات الكذب والأنانية. إن سبر الحقيقة يكمن في إبطال مفعول التقليعة العابرة، قبل أن تترسخ.

يصب الجهد الروائي في هذا المنحى، ويسعى إلى الكشف عما تراكم من طبقات عبر الزمن. مسيرة لم تقتصر على الرواية، سبقتها الفلسفة في نزع الخرافة والقداسة عن الأشياء، وإعادتها الى الإنسان. فالسحرة والكهنة والطغيان لم يوفروا جهداً في امتلاك الواقع، كي نراه كما يشاؤون. ومعاكسته هي تاريخ محاولات انتزاعه منهم، فكانت الثورات المتعاقبة وفلسفات التنوير لتحرير الإنسان من الزيف والتزوير.

وإذا كانت البشرية حالياً في محطة العلم، فقد جيّرت استيلاءها على الواقع لرؤاها المتسارعة في التقدم. المؤسف أنها بقدر ما توظف لسعادة الإنسان، توظف لشقائه، بعدما أصبحت سلاحاً لتفوق الدول وحلاً لنزاعاتها، بقدرتها على التدمير.

كان الأمل كبيراً في تغيير عالم أخذ يتنفس الصعداء بعد حربين عالمتين وحرب باردة وتساقط الحكومات الشمولية. سرعان ما استعاد التنافس حظوته في حرب ساخنة تحت مظلة الإرهاب، يدفع البشر أثمانها الباهظة.

إذا كان الهدف القضاء على الإرهاب، فلماذا ينتشر مكرساً هيمنة الدول الكبرى، وعودة الدكتاتوريات؟