حسب بعض الأدباء والنقاد، إذا كان ثمة إلهام يُصيب المُبدع، فهو لا يهبط من السماء، بل يُنتزَع انتزاعًا بالعمل والمشقّة وكدّ الذهن. بالتالي، لا يُعوَّل على ما روّج له كتّاب وشعراء، وما اتّفقت حوله الأقاويل الطريفة، على أنه هِبةٌ من شياطين عبقر، خصّ به بعض البشر المحظوظين يُصادفهم في سويعات شروق الشمس، أو طلوع القمر، ولا يتخلّى عنهم في عتمة الليل، ولا في الأحلام؛ يأتي أشبه بومضات ترافقها الشاعرية، لتُنتج شعرًا، أو ما يرقى إلى الشعر.

كذلك الموهبة، عُدّت في مصافّ الإلهام، لا تزيد عنه ولا تنقص، وقد تُعوّض عنه. الدافع داخليٌّ، لا يحتاج إلى معونة خارجية. تولد مع الإنسان أعطيةٌ من الخالق للخلق، تُوَزَّع بشكل انتقائي، ولا تُمنح اعتباطًا، تُمنح لمن هو جديرٌ بها… والكثير من هذا الكلام.

إذا أردنا تفسيرًا أقرب إلى الواقع الأرضي، هي نوعٌ غامض من الذكاء، بذرةٌ في بيئة مواتية أو غير مواتية، قد تُسحَق وتموت، إن لم تُتَعهّد بالرعاية. في بلادنا، يصعب الظفر بالرعاية؛ يجب على البذرة الاعتماد على صلابتها، وأيضًا على الظروف؛ ليس من المهم إن كانت قاسية، فالظروف القاسية قد تُنشّط وتُحرّض، أو تقتل، ومثلها الظروف الليّنة، أي ليس هناك ظروف مثالية، ما يساعد هذا قد لا يساعد ذاك. في النهاية، تبقى قصّةُ الموهبة وقدرتها على البقاء والاستمرار قصّةً غير مفهومة، ولا يمكن الثقة بسيرورتها ولا بمآلاتها.

الموهبة في أحد وجوهها تستلب الإنسان وتوظفه لخدمة البشرية

إذا افترضنا ولادة الموهبة مع الإنسان، سواء في طبقة مقتدرة، أو بيئة هامشية فقيرة، أو ريفية نائية، لا تعدو أنها أكثر من تربة صالحة أو غير صالحة، لكنها لن تنمو وتتبلور إلّا مع الزمن. وإذا كان لهذه الموهبة الاستمرار، لا الضمور، فبالمعرفة والدأب. يقضي الفنان أو المخترع والكاتب أعمارهم في حالة اجتهاد متواصل، ما يمنح لعطاءاتهم صفة الكشف والديمومة. الموهبة في أحد وجوهها تستلب الإنسان وتوظّفه لخدمة البشرية؛ قد تُسبغ عليه الشهرة، وربما المجد، لكنها تمنح الإنسانية نتائج جهوده.

في حال أثمرت الموهبة، ولم يصادف صاحبُها طائفةً من الجهال شاءوا الإضرار به، وعدم الاعتراف بما أنجزه، فقد يشعر بالغبن، وتضعف عزيمته ويدخل في دورات من الوساوس القهرية. فالموهوبون ــ من فرط حساسيتهم ــ قد لا يمتلكون المناعة ضد الأمراض النفسية الناشئة عن خذلان الجهات الرسمية لهم من سلطات وجامعات ومؤسسات.

ليس الجُهّال فحسب، بل أيضًا الحُسّاد والأغبياء ــ وهم موجودون بكثرة في مفاصل الدولة ــ يعتقدون أن التعويض المُجزي عن بلادتهم، هو التحكّم بأناسٍ أقدر منهم وأذكى، والعمل على تحطيمهم؛ ذلك هو الامتياز الذي تمنحه لهم وظائفهم، ولا يبلغون هدفهم إلّا بالتشكيك بكلّ ما أُفنيتْ أعمارٌ من أجله. تلك قصة الموهبة في بلداننا.

ولهذا الزمن نقائصه ومحاذيره. أصبح من الممكن الاستغناء عن الموهبة، إن لم يكن قتلها، والتعويض عنها بالادّعاء، طالما الدعاية تكفل ترويجَ أيّ مستحضر أو عقار على أنه نافع، أو أي كتاب على أنه جيد، وأي نظام ديكتاتوري على أنه ديمقراطي، ولو كانت السجون تغصّ بالمعتقلين والمشانق في انتظارهم.

لئلّا تعبث بنا الدعايات والادّعاءات، لا يمكن إخفاء ظهور أعداد كبيرة من الموهوبين في بلدان اللجوء لمجرّد توفّر بيئة حاضنة، شكّلت تربة صالحة لإبراز ما يتمتعون به من ذكاء جعلهم في مصاف أقرانهم في الغرب. وأحيانًا يتفوّقون عليهم في المدرسة، الجامعة، البحث العلمي، الطب، والفنون، وغيرها، مع أنهم من اللاجئين الذين غادروا بلدهم وتعرّضوا طوال سنوات الى حرب وحشية، وعاشوا ظروفًا غير إنسانية خلال رحلة اللجوء. بينما الكثير جدًّا من الموهوبين المحاصرين داخل بلدٍ طاردٍ للمواهب، يخوضون معاركهم مع جهات لا تعبأ إلّا بالبقاء في السلطة، وفي الوقت نفسه عازمون على شقّ طريقهم رغم الصعاب في بلدٍ من خراب يحتاج إليهم.