في منتصف القرن الماضي، كانت النصائح المتداولة تحثّ الكتّاب المبتدئين، وتشمل أحياناً الكُتّاب الذين بات عليهم تحويل خط سيرهم نحو الجبهة الأكثر تقدّمية؛ على أن تكون لديهم مقولة مبتكرة عبارة عن فكرة لافتة تتمحور حولها أعمالهم؛ المهم ألا تكون رجعية.

المعوّل عليه كان الالتزام السياسي حسب سارتر، أو اتخاذ جانب العدالة الاجتماعية على الطريقة اليسارية، أو صراع الطبقات والكفاح الأممي على النمط الشيوعي، وأيضاً الحرية على الطريقة الوجودية، إضافة إلى النضال المفروغ منه، وما يتطلّبه من تضحيات جمّة، مع أن النضال احتكره الحزب الأوحد، بينما أُلقيت التضحيات على عاتق الشعب.

إزاء هذه المهام الكبرى، بات للأدب أدواره العظيمة في التغيير الهائل المقبل، وبما أن التحوّلات الجذرية لا تنتظر تباطؤ الزمن أو تلكّؤه، سارع الكُتّاب إلى الأيديولوجيات الجاهزة، فالوقت لا يرحم، ولم يلتفتوا إلى نصائح الجيل الذي سبقهم، التي دعت إلى عدم إغفال الفن الرفيع واللغة الناصعة، والمبادئ الخالدة للخير والحق والجمال.

” لم تُنتهك صفة مثلما انتُهك الإبداع، من كثرة ما استُسهلت وعُمّمت”

بدت هذه النصائح غير ذات موضوع، وجوبهت بقوّة بأن الأدب لا يعبأ بهذه السفاسف البرجوازية، فهي مثل الديمقراطية ذات منحى رأسمالي مشبوه، علاقتها بما يسمى الإبداع الحقيقي واهية جداً.

كان “الإبداع” كلمة سحرية تُبيح للمبدع ما لا يجوز لغيره. فالخاملون والعاطلون من الموهبة بالملايين، أمّا المبدعون فبضعة مئات احتوتهم اتحادات الكُتّاب، مع أن الغالبية العظمى منهم لم يبدعوا شيئاً مما وعدوا به، لكن عضويتهم في الاتحاد كانت تحميهم وتؤكّدها. شنَّ “الإبداع” حسب نسخته المؤدلجة حملاته الجسورة ضد الأدب اللامبالي.

لم يطل الوقت سوى بضعة عقود حتى انقلب تحت تأثير انفراط عقد البلدان الاشتراكية، فأصبح الأدب البرجوازي أدباً عالمياً، أما الاشتراكي فمن نفايات الأدب. وقد كان للإبداع دور كبير في الحالين، فمثلما سوّغ هذا سوَّغ ذاك.

وبسبب ما نال “الإبداع” من غموض خلاّق، سعت جميع الأطراف إلى احتكاره، إذ لا يجوز ممارسة الأدب دونما إبداع، فأصبح من أكثر الكلمات مرونةً وميوعة واستهلاكاً، بحيث استشرى وصار عنواناً لجميع الفعاليات السياسية والاجتماعية والإعلامية. فلم يخل من الإبداع، مطرب ومؤلف أغانٍ ومقدّم برامج ومحلّل سياسي… إلى حد طولب المشايخ بالإبداع في فتاويهم بما يخصّ الإسناد والتفسير والتكفير والتحليل والتحريم.

لم تُنتهك صفة مثلما انتُهك الإبداع، من كثرة ما استُسهلت وعُمّمت، إلى أن صارت تُطلق على سبيل السخرية، فتنصّل منها جيلٌ كانت مبذولة له دونما عناء، خشي أن تُلصق به، كي لا يكون مثل غيره. فكأن الإبداع انقلب على نفسه، وأصبح بلا جدوى. إذ لم يُفرّط به إلاّ من التفريط باستخدامه بلا ضوابط، من دون العودة إلى القاموس.

وهكذا ضاع معنى الإبداع الذي لا حضارة ولا تقدّم من دونه. عموماً المبدعون الحقيقيون لم يتأثّروا، إنهم قلائل، قلائل جداً أكثر مما نتصوّر.

اقــرأ أيضاً